الانتظار الطويل يجعل منك قنبلة موقوتة، فما بالك إذا كنت معصوب العينين مطأطأ الرأس موثوق المعصمين (على طريقة الأفلام الأمريكية برباط بلاستك) ومحشوراً وبقسوة مع عشرات الأجساد المتهالكة تحت وبين مقاعد باص أبيض جميل المظهر وله ستائر زرقاء ترفرف مع نسمات الهواء المتدفق من فتحات قليلة لنافذة السائق ذو الكرش الكبير ولباسه العسكري العفن؟!
لم تكن عصابة العين وحشر الأجساد تحت المقاعد فقط هي السبب فهناك – أحياناً – وليس دائما بوطاً عسكرياً رشيقاً يتفقد ظهورنا بقفزات تعقبها ركلات ثم ينطلق مدفع الشتائم والسباب من فم أشخاص لا أدري كيف سميناهم بشراً.
لم يطل بنا الحال هكذا، فقد وصلنا /الميرديان/ كما يسمونه على أساس إنهم انتقلوا حديثا إلى بناءٍ جديد (البالونة) اسمها كاف لأن يجعلك ترتجف فكيف إذا كان هناك عشرون “بغلاً” ملؤهم الحقد بانتظارك؟
فقد صمموا ممرا بأجسادهم المنتفخة لؤماً، ننزل فرادى، ثم نتدافع ملتصقين ببعضنا، فكل جسد وبغريزة حيوانية يبتعد عن طقطقة النطاق العسكري ونحاساته التي تهوي على رؤوسنا، فيما بعد وصفت هذه الحالة بأننا كنا كالكلب الأجرب الذي يخشى الوحدة وكلما اقترب من أحد رماه بحجر ليفر هارباً ومع محاولة أخرا يتلقى حجراً آخر.
المهم أننا وبلمح البصر ومع بعض الإصابات الخفيفة وصلنا مدخل البناء، لم نكن نرى سوى موطئ قدمنا، البعض سقط أرضاً ليتجمعوا فوقه كما الذئاب تلتف حول فريستها، حفل الاستقبال هذا ينتهي بمجرد تجاوزنا البوابة، افترشنا الأرض لاهثين، جاءنا صوت أجش: “قعود ولاك” لم نكن نعرف من جلس ومن لم يجلس.
بدأ ملاك الرحمة بقطع الرباط البلاستيكي بسكين صدئة، وبطريقة فجَّة، وكأنه يتعمد إصابة أيدينا بجروح رغم أنه ذو لسان لطيف، فكان يهامسنا بكلمات تشجيعية وأن الأمر لن يطول ولن يصح إلا الصح وستخرجون سريعاً، هكذا كان يصل مسامعنا.
لحظات وعاد الصوت الأجش إلى الحديث: “فكوا العصابة عن عيونكم” …. لم يتحرك أحد، (ولك شيل عن عيونك ياحمار) هه هه (شعب ما بيجي غير بالرصَّ) …. حتى عصابة العين كانت تعذيباً، اكتشفنا ذلك عندما أبعدناها عن وجهنا، بدأت الحرقة بالعين والحكة حولها لكننا أسعدنا كثير بعودة أذرعنا لأجسادنا وقد طالت في غيبتها مشدودة خلف ظهورنا حتى فقدنا الإحساس بها.
بعيون مفتوحة أصبحنا بشراً، تعرفنا لبعضنا بصمت، لكن سعادتنا ضاعت بصراخ صاحب الصوت الأجش: (شلاح ياحيوان ما تترك شي على جسمك والله لاشويكن شوي) وبدأ باستدعاء عناصر الاحتفال الكبير.
وقفنا جميعاً بترتيب واصطفاف عسكري عارين تماماً، وثيابنا على الأرض منثورة وحولنا وجوه بشرية بعيون حاقدة تنتظر لحظة الصفر للانقضاض على أجسادنا، وقف صاحب الصوت الأجش وقد شاهدته لأول مرة طويل القامة نحيف جداً بشكل ملفت للنظر، أسنانه صفراء من كثرة التدخين .. ربما، تحرك هذا الكائن البشري بين الأجساد العارية التي تكاد تتهاوى من التعب والخوف.
في لحظة صمت رهيب صرخ ذو الاسنان الصفراء بدهشة وفرح وكأنه وجد كنزاً: “طيفور.. وينك يازلمة؟ دوختني بالبالونة القديمة لاحقني لهون؟” والتفت يميناً وشمالاً : “يا جماعة والله العظيم هالطيفور شفعلكم… كرمال عيون طيفور ماحدا رح يلمسكن اليوم والحفلة الكبيرة مسامحكن فيها.. ترى الدفعة الي قبلكن لساها بالحفلة من ساعتين”.
من هو طيفور وما الذي صنعه هذا الشاب ليستحق كل هذا الثناء من سجان لم نرى به شيئاً من الإنسانية؟!
وتابع ذو الأسنان الصفراء: “يا جماعة بحبه لطيفور.. من يوم ها الأزمة ما عاد تهنيت بركبة الباص، كان طيفور يحجز لي أحسن مقعد” …… ابتسم كثير من الخائفين دون أي تغير بمعالمهم … ليس مهما أن يشفع لنا وشّيش باص (الوشيش هو الذي يقف إلى جانب الباص ينادي على الركاب ليصعدوا إلى الباص)، المهم أن نبتعد من أمام هذه الوجوه الحاقدة .. سمحوا لنا أخيراً أن نرتدي لباسنا بعد أن أجرينا حركتي الأمان (أن تجلس القرفصاء مرتين وأنت عارٍ تماماً) ثم بكل إهانة دفعونا خلف بعضنا سيراً إلى الزنزانة وطبعاً في طريقنا إلى هناك مررنا بالقرب من وجوه كثيرة أعرفها، كان بعضها مخضباً بدمائه وبعضها يزحف على الأرض معاقباً.
تلك الوجوه التي أعرفها كانت خارج هذه الزنزانة نابضة بالخير والحب، منهم من كان يعالج الناس، ومنهم من كان يعلم، ومنهم من كان يصلي الآلاف خلفه في المساجد، شاهدتهم يتدحرجون ويقفون ثم يزحفون وبعضهم كان يبكي من القهر.
ربي رب السموات والأرض هل هذا هو الوعد المنشود ربي من ينصر المظلوم سواك: “وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]
في سري شكرت الله على رفقتنا لطيفور وتذكرت مقالة لأحلام مستغانمي عندما تعرفوا عليها في مطار بيروت بأنها من بلد الشاب خالد وكيف أنها تأسفت على بلد مثل الجزائر كان معروفاً بأنه بلد عبد القادر الجزائري وفجأة أصبح بلداً معروفا باسم الشاب خالد غنى كلمتين بغباء ليصبح شاغل الناس ومشهوراً لدرجة أن يعرفه الناس أكثر من أديبة لها أربع روايات جميلة.
أسفاً عليك يا بلدي.. عندما استنهض ستالين همم الروس ناداهم بأنهم من بلد تولستوي ولم يقل أنهم بلد المافيات ونحن لازلنا نتغنى ببطل الستار أكاديمي.
المهم وصلنا الزنزانة وكان طيفور قد تألق ضمن مجموعتنا حتى أنهم خصصوا له مكانا رفيعاً داخل الزنزانة ونحن بدأنا سلسلة البحث عن مكان لنضع عليه رأسنا فالتعب أخذ منا الكثير.
Sorry Comments are closed