حسام الدين محمد يكتب: عن بعض الإشكالات الفكرية والسياسية للمثقف السوري

فريق التحرير6 يناير 2018آخر تحديث :
حسام الدين محمد


كشفت الثورة السورية خلال مراحلها المختلفة عن معضلات سياسية عديدة أرّقت المثقفين. عبّرت هذه المعضلات عن تعقيدات الوضع السوري والعربيّ، وكذلك عن إشكالات المثقف نفسه في تموضعه ضمن أو عكس حركة الثورة، وفي طرق قراءتها والتفاعل معها سياسياً ومعرفياً وأخلاقياً.

إحدى هذه المعضلات تتعلّق بما يمكن أن نسميه، تاريخياً وجغرافياً، بـ”المسألة السورية” التي انبثقت عمليّاً كإحدى نتائج الحرب العالمية الأولى مع طرد قوات الخلافة العثمانية من المشرق العربيّ واحتلال جيوش الحلفاء له، وما أدى ذلك من تأسيس للكيانات السياسية لسوريا ولبنان وشرق الأردن وفلسطين والعراق.

الصياغة التي خضع لها الكيان السوري الجديد، آنذاك، حرمته، دفعة واحدة، من الاتصال بالعمق الأفريقي عبر فلسطين التي احتلّها البريطانيون، ما ساهم في تعزيز الهجرة اليهودية والاستيطان في فلسطين وصولاً إلى إعلان دولة إسرائيل وظهور “المسألة الفلسطينية”، وكذلك حرمته من الاتصال بالحجاز ونجد عبر شرق الأردن، إضافة لكونها شطرت خط الساحل، وهو خط كان موحّداً في أغلب الفترات التاريخية، الأمر الذي ساهم في توتّر تاريخي وجغرافي ودفع الأيديولوجيتين القوميتين، العربية والسورية إلى تصدّر المشهد في لبنان وسوريا، وإلى محاولات انقلاب (وهو ما يفيد في قراءة العصاب السياسي التاريخي الذي أنتجته التقسيمات الجغرافية المستجدة)، فشلت في لبنان، وأدّت إلى شنق قائد الحزب القومي السوري الاجتماعي أنطون سعادة، ونجحت في سوريا وأدّت إلى العواقب الكارثية التي نراها حاليّاً.

تساهم جغرافيا “سوريا” في جعلها بلاداً مفتوحة من الشمال والشرق بدون عوائق كبيرة، ما جعلها تتعرّض، على مدار التاريخ، لغزوات من الشمال والشرق ومن الساحل الغربي، وكذلك من الجنوب المفتوح على الجزيرة العربية.

يُسهم في هذه تعقيد المسألة الجغرافية كيانان تاريخيان كبيرين وقديمان لطالما تصارعا على السيطرة على هذه المنطقة: إيران وتركيا. وكان واضحاً تأثير هذين الكيانين ليس خلال الثورة السورية فحسب بل عبر التاريخ أيضاً.

شعوب/ طوائف

أثار الاعتراض الذي رفعه الشاعر المعروف أدونيس على خروج المظاهرات من الجوامع خضّة وبرّر، من خلاله، موقفه المناهض لهذه الثورة باعتبارها متلبسة بطابع دينيّ إلى أحد هذه المعضلات.

فرغم ردود مثقفين سوريين كثيرين، متعاطفين أو منخرطين في الثورة، على هذه الأطروحة، فإنه الكثير من المثقفين قاموا لاحقاً بنقد الاتجاهات الأيديولوجية ذات الطابع الديني التي سيطرت على الساحة السورية عسكرياً وأطاحت بالاتجاهات المدنية والديمقراطية، بل وضيّقت تأثير الحركات العسكرية التي لا تحمل طابعاً “إسلامياً”، وعلى الناشطين المدنيين الذين لا يتواءمون معها.

واعتبر مثقفون كثيرون ما حصل اختطافاً للاتجاه المدنيّ، الديمقراطي وغير الطائفي الذي عبّرت عنه تظاهرات الشهور الستة الأولى، وعبّروا بوضوح عن معارضتهم لتلك الاتجاهات وأساليبها.

تجاهل الأدونيسيون طبعاً البطش الدمويّ الكبير الذي قام به النظام، بل يمكن التأكيد على أن ذلك البطش، في اعتقادهم، كان ضرورة لحماية الدولة من سيطرة تلك الاتجاهات الدينية التي كانت الثورة السورية تضمرها منذ بداياتها (فالحقيقة، في اعتقادهم، أن المشكلة في تلك الثورة هي في حاملها الجماهيري نفسه المحكوم بتخلّفه “الثابت” الذي لا يحول، على عكس الحامل “المتحول” لجماهير النظام!)، وهذا يفسّر، على ما يبدو، أن الأدونيسيين، ومن في حُكمهم، لم يشعروا بحرج من الطابع الطائفيّ لمؤسسات النظام ومخابراته وميليشياته وفوقها ميليشيات الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني و”الفاطميون” الأفغان و”الحشد الشعبي” العراقي.

أما مناصرو الثورة العلمانيون فكانت المعضلة بالنسبة لهم أن الجسم الجماهيري للثورة كفر بالشعارات المدنية والسلمية وغير الطائفية، وانتظم في أجسام عسكرية وسياسية تقودها، بشكل عام، الأشكال المتنوعة للاتجاهات الأيديولوجية الدينيّة، وهو ما قاد بعضهم إلى اعتبار الصراع الأيديولوجي مع هؤلاء يوازي، وأحياناً أكثر أولوية من الصراع مع النظام، كما قاد بعضهم إلى قول “ليت الثورة لم تكن”.

عبّرت هذه المعضلة عن تأثير كبير للتصلّب الأيديولوجي لدى المثقفين السوريين (والمثقفين العرب، وبشكل أكبر، كما هو الأمر في تونس ومصر) وقد أثّر هذا الصراع الأيديولوجي، بشكل فاعل، على الثورة السورية، وعلى تموضعات المثقفين داخلها، وغابت، بسبب هذا الصراع، القضايا التي يمكن أن تلعب دوراً جامعاً ومؤثراً. فالمثقفون العلمانيون أخذوا على بعض الاتجاهات الإسلامية ابتعادها عن الديمقراطية واستبدادها وتطرّفها، فيما قامت بعض الحركات السلفية بالإيغال في مطاردة الناشطين المختلفين معها أيديولوجياً متحوّلة بالتدريج إلى نسخ مقلّدة للنظام، ولكن بقناع إسلامي.

وحتى في أجسام المعارضة خارج سوريا، والتي لعب “الإخوان المسلمون” دوراً مركزياً فيها، فإن البنى الأيديولوجية المتخشّبة لدى الطرفين لعبت دوراً في الإشكاليات العديدة التي حاقت بتلك المؤسسات وبأجواء الشكّ والريبة والانقسامات، ومن مبادئ الديمقراطية والمدنية ومناهضة الاستبداد لم يبق صامداً إلا آليات الانتخاب التي كانت في أغلب الأحيان مجال تلاعب للدول الإقليمية.

عكست هذه الصراعات تجذّر البنى الاستبدادية ضمن المعارضة، مما منع توحّدها على نهج سياسي ديمقراطي يتقبّل الاختلاف الأيديولوجي بين “الإسلاميين” و”العلمانيين”، وعدم تمكين هذا النهج الديمقراطي يؤدي، بالضرورة، إلى تمكين الاستبداد ويبرّر، في النهاية، وجود النظام.

عرب /أكراد

تفرّعت عن هذه المعضلة قضايا أخرى ومنها الاختلاف بين العرب والأكراد على النظر إلى قضية إنشاء كيان قوميّ كرديّ داخل سوريا. وكان أحد أركان هذا الخلاف هو استفحال نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي هو واجهة لحزب العمال الكردستاني في تركيا، وممارساته، وكذلك الصراعات المتعددة مع هذا التنظيم، سواء مع الاتجاهات الكردية الأخرى المناصرة للثورة، أو مع التنظيمات العسكرية المسلّحة العديدة التي تصارع النظام، ومع تنظيمات متطرّفة كـ”هيئة تحرير الشام” (أو “جبهة النصرة”)، والانحراف الخطير الذي شكّله تنظيم “الدولة الإسلامية” وخطره على الجميع.

أكّد بعض المثقفين السوريين على مبدئية النضال الكرديّ، بل وتماهى بعض قليل منهم مع اتجاه “الاتحاد الديمقراطي”، فيما رفض كثيرون آخرون ممارسات “الاتحاد”، ولكن البعض الآخر عبّر عن عداء ليس للحزب هذا فحسب بل للقضية الكردية برمتها.

تداخلت في هذه القضية عناصر كثيرة، أولها كان النظام نفسه الذي وجد فرصة ذهبية في شقّ الصف السوري عبر دعم حزب مناهض لتركيا والتنسيق معه ضد خصوم الطرفين من الأكراد واتجاهات الثورة السورية المتعددة، وما لبث هذا الدور أن استهوى أطرافاً أخرى، بينها الولايات المتحدة الأمريكية التي وجدت في حزب العمال عتلة عسكرية غير خاضعة لسيطرة تركيا، ويمكن تحريكها ضد الإسلاميين، وخصوصاً مع تنامي نفوذ تنظيم “الدولة الإسلامية”.

عكست القضية أيضاً تجذّر بنى الاستبداد التقليدية لدى حزب العمال الكردستاني ولدى خصومه الأيديولوجيين الطبيعيين أيضاً، وساهمت هذه العلاقة الانتهازية مع النظام في توسيع نفوذ حزب العمال وطرد الجيوب الكردية المناصرة للثورة السورية بالتدريج. ولكن النتيجة الأهم كانت شقّ صفوف الثورة السورية وتوظيف حيّز كبير من الأكراد السوريين ضدها.

ساهم الخطر على تركيا الذي شكّله تحول حزب العمال إلى ما يشبه دولة في سوريا، في تغيير تدريجي لمواقف أنقرة من الثورة السورية، واستتباعا لمواقفها من الولايات المتحدة الأمريكية التي أصبحت الراعية العسكرية والمالية للحزب، وأوروبا التي تأثرت بموجة اللجوء السورية وبالانتهاكات الكبيرة لحقوق الإنسان في تركيا، وقد ساهمت محاولة الانقلاب العسكرية في عام 2016 في تبلور هذه المواقف واتجاه أنقرة للتموضع قريباً من روسيا وإيران، وتحوّلت أولوياتها من إسقاط النظام السوري ودعم المعارضة إلى محاولة الاتفاق معه على محاربة حزب العمال.

الخيبة الغربية

راهن جمهور المعارضة السوري ومثقفوها على دور فاعل للولايات المتحدة وأوروبا في انتصار الثورة، بعد أن قام الغرب بتشجيعها في مراحلها الأولى. ولكنّه، مع الهجوم على السفارة الأمريكية في ليبيا، وتوتر الأوضاع بين الإسلاميين والجيش في مصر، وسيطرة الاتجاهات السلفيّة على جبهات المعارضة السورية المسلحة وصولاً إلى ظهور “النصرة” و”الدولة الإسلامية”، تبلور موقف غربيّ متزايد متشكك بالثورة السورية ونواظمها السياسية والعسكرية.

تبدّل موقف المثقف السوري نحو أوروبا من التعويل الكبير على رغبتها في التغيير، وإيمان بأنها لن تسمح لطاغية دموي قتل مئات الآلاف من السوريين بالبقاء، إلى خيبة متدرّجة ساهمت في نقد مفاهيم أيديولوجية رائجة بالعلاقة مع الغرب والليبرالية والنظم الديمقراطية، وإلى إحساس مرير بالخيانة.

حيّز كبير مما حصل في سوريا لاحقاً كان نتيجة للاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 وما تكشّف من أكاذيب حول السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل وصولاً إلى تهشم الدولة العراقية وتضرر النسيج الاجتماعي والعنف الطائفي الكاسح والذي ساهم في إنعاش التطرّف وحركات الإرهاب كـ”القاعدة” و”الدولة الإسلامية” بعد فشل أساليب الاحتجاج المدنية والاعتصامات التي حاولت تقليد ما حصل في دول عربية أخرى.

وقد أدّت نتائج احتلال العراق إلى حذر كبير أمريكي وأوروبي من أية دعوات للتدخّل أو تقديم العون العسكري للثورات. غير أن هذا السياق التاريخي لم يمنع إحساس الخيبة والمراجعات المريرة لبعض المثقفين السوريين، وحملت بعض التحليلات منظورات عميقة لقراءة المواقف الغربية لا ترتبط بالسياق التاريخي للثورة السورية فحسب بل بقراءة حدود الأنظمة الغربية، وتجذّر المواقف الاستشراقية داخل مؤسساتها حول الإسلام والعرب.

الثورة / الانقلاب

تعرّضت مراجعات قليلة للمثقفين السوريين لقضايا لغوية، ومن ذلك قول منير الخطيب: “إن اللغة العربية تحتاج لإصلاح جذري”. وأن هذا “من شروط فكّ الارتباط التاريخي ما بين الاستبدادين الديني والسياسي”، مستنداً إلى الياس مرقص، في تأكيد ضرورة إنشاء قاموس دلالي – تاريخي يستوعب المصطلحات المعاصرة دون ترجمتها.

ورأى الخطيب أن “الشعب” في اللغة العربية لا يزال يعني العامة مقابل الخاصة، و”الدولة” ما زالت تردّ إلى فعل دال أي سياسة الخيل، و”الوطن” يعني لغوياً مربط الخيل، مقترحاً أن تدوين المصطلحات الجديدة في اللغة ضروري لكسر جمودها وربطها بالمعاصرة والكونية.

وقد شاركت شخصياً في دراسة في مجلة صدر منها عدد واحد، “الرابطة”، في دراسة تشرح الالتباس الكبير الذي حصل في ترجمة مصطلح Revolution اللاتيني بكلمة انقلاب في بداية القرن الماضي، ولكن بعد استيلاء العسكريين على السلطة تمّ استخدام الكلمة لوصف عملهم العسكري، فيما تمّ استخدام مصطلح آخر هو “الثورة”، رغم أنه يحيل إلى الغضب والهياج على عكس مصطلح انقلاب الذي يعني إزاحة طبقة وإحلال طبقة أخرى مكانها.

*

تشير هذه المعضلات الفكرية جميعها إلى عدد الأسئلة الكبير الذي طرحته الثورة السورية على جمهورها ومثقفيها، وهو ما جعل على هذه الدرجة من التعقيد وحمّل مثقفيها مهام فكرية شائكة.

المصدر رابطة الكتاب السوريين
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل