منذ مئة عام منحت بريطانيا العظمى وعلى رأسها وزير خارجية المملكة اللورد آرثر بلفور وعدًا لليهود بإقامة دولة على أراضي فلسطين. بعد مئة عام من هذا الوعد قطع الرئيس الأميركي دونالد ترامب وعدًا لإسرائيل اعترف فيه بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني.
وعدان في مئة عام، وبينهما اعتداءات إسرائيلية غير معدودة، ساهمت في تكوين أكبر كذبات التاريخ الحديث والمعاصر، أي دولة إسرائيل. وليس المقصود بـ”كذبة إسرائيل” العبارة المفرطة في الاستخدام عبر وسائل الإعلام العربية، وليس ما يفعله هذا الإعلام بالتباكي منذ عشرات الأعوام على الأراضي الفلسطينية، ولا يعني دراسة تاريخ “كذبة إسرائيل” تعداد ممارسات هذا الكيان منذ تأسيسه عام 1948، بل هو الحفر في كيفية تحول عهد سياسي إلى ميثاق وطني لدولة ما، عهد سياسي احتفل به المتعهد والمعهود له بدلًا من تقديم اعتذار عنه لسكان البلد الأصليين في قرن الاعتذارات الدولية.
شبكات الكذب بمفهوم دريدا
في دراسته لتاريخ الكذب يميّز الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا بين ثلاث شبكات لمفهوم الكذب علينا الاحتراز منها: “الأولى تاريخ خاص بمفهوم الكذب، والثانية تاريخ خاص يضم كل الأحداث التي وقعت للكذب أو بسببه، وأخيرًا، تاريخ ذو بعد واقعي يروي كل الأكاذيب أو الكذب بصفة عامة”.
وحينما يقف دريدا عند الشبكة الثالثة المختصّة ببناء تاريخ ذي بعد واقعي يروي الأكاذيب الكبرى، يتطرق إلى مفهوم اعتذار الدول عن كذبة أودت إلى كارثة، فيسوق مثلا على اعتذار فرنسا في عهد جاك شيراك عن عدم حماية بعض مناطق اليهود في الحرب العالمية الثانية. ويضعنا هذا فورًا أمام المطالبات العربية لبريطانيا بالاعتذار عن وعد بلفور، وكيف ردت بريطانيا على ذلك بالاحتفال بالذكرى المئوية لوعد بلفور والتصريح على لسان رئيسة وزرائها تيريزا ماي بالقول إن وعد بلفور أو رسالته كانت “واحدة من أهم الرسائل في التاريخ، رسالة أدت إلى ولادة دولة غير عادية، رسالة فتحت الباب للمساعدة في جعل الوطن اليهودي حقيقة”. لماذا حدث هذا في حالتنا الفلسطينية؟ ولماذا ذهبت كل المناشدات بالاعتذار أدراج الرياح، لا بل عادت بنتائج عكسية؟ّ! وكيف تمكنت إسرائيل من انتزاع اعتراف بالكذب واعتذار عنه من فرنسا بينما لم نتمكن نحن من ذلك؟ لربما يتردد صدى الإجابة في ما خرجت به الجامعة العربية علينا منذ أيام، حينما عقدت جلستها الاستثنائية لمناقشة ملف الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ومفاده أن أميركا تدعم “الحق الذي يُفرض بالقوة” ويُقصد به حق إسرائيل بالاعتراف بالقدس وتقف ضد “القوة النابعة عن حق”.
إرادة القوة
لا توجد قوة نابعة عن حق، القوة هي من تصنع الحقيقة في عالمٍ تدفعه “قوة الزيف”، ولعل ذلك أحد أوجه الاختلاف المعقدة بيننا وبين عدونا الذي تعلم من تجربته أن القوة هي من تصنع الحق وتكرسه لا العكس، وواقع الحال خير دليل، وأدرج على نتائج القوة كل القيم العليا كالخير والأخلاق…الخ. وهذا ليس كلامًا إنشائيا يحمل مجازًا وخطابة ما فتئنا من تردادها في الصراع العربي الإسرائيلي، بل هو أساسٌ فكري متين يمتد من كانتْ وشوبنهور وصولًا إلى حنا أرندت ومارتن هايدغر.
نحن نشهد اليوم ولادة كذبة بحجم وعد بلفور، كذبة تدّعي أن القدس هي عاصمة هذه الدولة الوليدة، كذبة ستستحيل مع الوقت إلى حقيقة مطلقة يتداعى كل من نكرها اليوم إلى الاعتراف بها غدًا، حالها حال إسرائيل ذاتها، إسرائيل التي بنيت على كذبة غدت حقيقة بعد ثلاثين عامًا (1917 ــ 1948)، ولها حق بالوجود اعترف به جل العالم تباعًا. إذن، هل يكفي ادعائنا كعرب أن القدس عاصمة فلسطين في تكريس هذا الحق؟ أليست الشعوب والأمم والدول التي تقف مع حقنا هذا اليوم هي نفسها نكرته سابقا باعترافها بإسرائيل؟ وأبعد من ذلك، أليست كل الحقائق والمسلمات التي نؤمن بها اليوم قامت على “كذبة أحالتها قوة الزيف إلى حقيقة غير قابلة للنقاش” على حد تعبير فريدريك نيتشه في تنظيره لـ”إرادة القوة”؟
وضع عربي مناسب!
حينما منحت المملكة المتحدة وعدها عام 1917 كانت العواصم العربية الرئيسية كدمشق وبغداد وبيروت تمثّلُ تركةً منهكةً من الإمبراطورية العثمانية، تركةً ليست لأحد. واليوم أيضًا، جعلت الحروب الأهلية والانفجارات الشعبية من هذه العواصم تركةً منهكة كما كان حالها وقتما مُنحت فلسطين للحركة الصهيونية. لا أدّعي هنا بنظرية المؤامرة الكونية على العرب والبلاد العربية، ولا أستسيغها، لكني أشير إلى نقاط التقاط شديدة تتجاوز التشابه بالتاريخ السطحي، لتتموضع في جذر موعد إعلان القدس عاصمة لإسرائيل. ليس من زمان أنسب من الذي نعيشه لإعلان كهذا. الشعوب منهكة، العرب بشامها ويمنها مدمرة، والعروبة أصبحت مهزلة الأجيال الجديدة، وليس أمامنا إلا التفريغ والتنفيس في مظاهرات، واقعية وافتراضية، لم تؤتِ أُكلها منذ قرن إلى اليوم، لكنها أداتنا الوحيدة المتاحة في خضم الفوضى.
في الصدد ذاته، وبالعودة إلى دريدا أيضًا، تطرح الفيلسوفة حنا أرندت في كتابها “السياسة والكذب” مسألة اعتذار الحكومات عن الكذب لا لشعب آخر، بل لشعوبها، كما حدث مع اعتذار الدولة اليابانية من الشعب الياباني عن الحرب العالمية الثانية. ويسمي دريدا وأرندت ذلك بأنه دفعة نحو الرقي الإنساني الذي ذكره إمانويل كانت ومثّل عليه بما حدث مع الثورة الفرنسية. وهنا نجد أننا كشعوب عربية لسنا أمام مطالبات من اعتذار الآخر الأوروبي ونظمه الكولونيالية وحسب، بل أمام مطالبة أخرى بالاعتذار، وهو اعتذار دولنا الحديثة (ولا أقصد الحكومات والأنظمة، بل الدولة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى) عن كم الخيبات والهزائم التي منينا بها خلال قرن من الزمن، علّنا ننال قسطًا من الرقي الإنساني في حدث كذلك، وفي زمن آخر لا تثقلنا فيه الهزائم والنوائب.
إذن، علينا ألا نكتفي بالصراخ والعويل في أرجاء العالم عن كذب إسرائيل وافترائها، بل أن نبحث عن جذر هذا الكذب ونفتته، ونقرأ الكيفية التي تحولت فيها “كذبة إسرائيل” إلى حقيقة، حتى أن دريدا الذي عُرف بمناهضته للصهيونية و”فضح ذلك التوظيف للمعلومات التاريخية والقائم على استخدام الهولوكوست، والاستفادة منه لهذه الغاية أو تلك”، رأى إسرائيل كحقيقة لم تعد قابلة للنسف، فبرغم أن تأسيسها يظل بالنسبة إليه غير خال من أسئلة موجعة لكنه رأى أن من الأفضل “مع مراعاة كل شيء ولمصلحة أكبر عدد من الناس حتى الفلسطينيين، بما في ذلك الدول الأخرى في المنطقة، اعتبار ذلك التأسيس ــ رغم العنف الذي نشأ عليه في البدايات ــ كيانًا لا يمكن الرجوع عنه من الآن فصاعدًا، بشرط قيام علاقات مع دولة فلسطينية تتمتع بجميع حقوقها بأدق ما تعنيه كلمة دولة”.
Sorry Comments are closed