في تفسير وتحليل حالة الانهيار العربي الشامل يلجأ البعض لربط ذلك بحالات التردي في مجالات التكنولوجيا والثقافة والتعليم والديمقراطية وحقوق الإنسان؛ وقد يزيدون عليها الظلم الواقع على المرأة وعدم مساواتها بالرجل؛ أو يضيفون عدم قدرة المثليين في ممارسة حقوقهم أو شذوذهم علناً خوفاً من المجتمع المتخلّف كما يقولون.
لا يمكن إنكار حالة التخلّف التي تعيشها المجتمعات العربية؛ ولكن من الخطأ إصدار الأحكام قياساً على نتائج التخلف دون البحث الجدّي في أسبابه الحقيقية.
بعض من لا يقبلون تفسير الأحداث المعاصرة من خلال ربطها بالتاريخ وإسقاطاته يصفون ذلك بأنه ركون للماضي وابتعاد عن المنهج العلمي؛ لأن ربط الأحداث تاريخياً يستسيغه الحكّام لتبرير فشلهم الذريع في تحقيق النهضة الموعودة؛ حيث يرجعون أسباب الفشل لليد الخفية الخارجية التي تقوم بمؤامرة تاريخية مستمرة لإسقاط أنظمتهم الفاسدة.
يلقي التاريخ بثقله وظلاله علينا؛ ومن فوائد التاريخ كما يقول الدكتور عبد العزيز الدوري أنه يلقي أضواء تكشف الجذور وتساعد على فهم الحاضر؛ ويمكن من الإعداد للمستقبل بوعي وإدراك.
يتابع الدوري في كتابه الجذور التاريخية للشعوبية: بأن تاريخ الأمة متصل مترابط يكون سلسلة حلقات متتابعة؛ أو مجرى متصل؛ يؤدي بعضه إلى بعض؛ وحاضر الأمة نتاج سيرها التاريخي وبداية طريقها إلى المستقبل؛ ولذا فلا انقطاع في التاريخ؛ ولا ظاهرة تبدو فيه دون جذور أو تمهيد.
بعد سقوط الامبراطورية الفارسية وبزوغ فجر الدولة العربية مكانها منذ صدر الإسلام؛ بدأ الفرس يسعون للأخذ بالثأر والانتقام من العرب وإعادة سلطانهم المفقود؛ حيث نشطت الحركة الشعوبية في الفترة الأموية الأخيرة، واندفعت بقوة في العصر العباسي وهي تمثل جانباً من محاولات شعوب غير عربية لضرب السلطان العربي عن طريق الفكر والعقيدة، فهي في اندفاعها تكشف عن صراع ثقافي ديني لتحقيق أهداف سياسية.
الشعوبية هي حركة متعددة الأذرع؛ حيث شهدنا مظاهرها في حركات تمرد وثورة كحركات الموالي والبرامكة والأفشين وبنو سهل؛ ومن خلال التآمر لإسقاط الدولة الأموية ومن ثم التغلغل والسيطرة على الدولة العباسية وصعود نجم البرامكة وغيرهم؛ وعبر الحركات الدينية والفكرية المختلفة التي تشن هجومها على اللغة والتاريخ والعادات والثقافة العربية من خلال الدين نفسه ومنها حركات الزنادقة والخرمية والمانوية والغلاة.
ولئن استطاع العرب التصدي للشعوبية الثقافية بالحفاظ على لغتهم وتاريخهم؛ وللشعوبية الفكرية الفلسفية الفكرية من خلال ظهور علم الكلام الإسلامي؛ إلا أنهم فقدوا منذ الدولة العباسية الأولى مركز القيادة واستمر تراجعهم منذ ذلك الوقت.
لم يتوقف الصراع العربي الفارسي مطلقاً بل كان يتخذ أشكالاً متعددة بحسب الظروف وطبيعة الأوضاع السياسية؛ وما حصل أن الشعوبية المستترة تحولت مؤخراً إلى علنية؛ ولم يجد الفرس حرجاً في ركوب مطية المذهب الشيعي واعتبار أنفسهم أوصياء على المذهب والمراقد الشيعية والمقام بالتبشير الشيعي والسيطرة على المرجعية الفقهية الشيعية في العالم من خلال ما أدخلوه على المذهب من ولاية الفقيه وعصمة الأئمة.
تحولت إيران إلى دولة مرجعية لكلّ شيعة العالم؛ وأعطت لنفسها الحق باستخدام كافة الوسائل للتمدد والانتشار والسيطرة خارج إيران؛ وأصبحنا نرى نفوذ إيران والشيعة الواضح في عواصم عربية كبيرة في بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
لم تتوقف الشعوبية عن ابتكار الوسائل لتدمير العرب؛ والتشيّع ليس سوى آخر وسيلة شعوبية ناجحة لجأ إليها الفرس.
هزم العرب بشكل مريع في مواجهة الشعوبية الإيرانية الفارسية ووسيلتها التشيع؛ حيث لم ينجحوا في إنتاج خطاب ديني مذهبي مضاد يستطيع تحقيق الإجماع للمواجهة؛ وتركوا الأمر لبعض المؤسسات والجماعات الدينية التي فهمت أن المواجهة تكون بإطلاق خطاب كراهية وعداء يثير الحماس للمواجهة مع “المجوس”؛ وذلك أدى لنشوء تنظيمات هجينة شوهت صورة الإسلام السني في مواجهة الإسلام الشيعي؛ كما لم يستطع العرب إنشاء منظومة عمل تقدر المخاطر المترتبة على استمرار التغلغل الإيراني وتضع خطط عمل قومي للمواجهة والحفاظ على الثوابت والهوية القومية.
والأنكى استمرار كثير من الباحثين العرب في الابتعاد عن التوصيف الحقيقي لما يجري؛ بحجة عدم إثارة النعرات الطائفية أو الانجرار خلف خطاب مذهبي يريده الطرف الأخر.
لم يتوقف الصراع العربي الفارسي البتة ولن يتوقف؛ لكنه يأخذ أوجهاً مختلفة كل مرة؛ سواء في السرّ أو العلن؛ هو صراع وجود وبقاء؛ وكما يقول توينبي فإن التحدي يجب أن تتم مواجهته باستجابة مناسبة لدرء خطره؛ وفي النهاية البقاء للأصلح والاقوى كما يقول داروين.
عذراً التعليقات مغلقة