قبل أيام قليلة، زار الرّئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجزائر. وجد في استقباله لائحة من المطالب الشّعبية: طلب منه شباب التقاط صور سيلفي معه، آخرون طلبوا منه تسهيلات للحصول على التأشيرة، والرّسميون طالبوا باستعادة أرشيف الجزائر في فرنسا، وخصوصا جماجم المُقاومين، المخبّأة في خزائن «متحف الإنسان» في باريس، بعيدا عن أعين الزّوار.
منذ سنوات قليلة، اكتشف مؤرخ جزائري موضوع «جماجم المُقاومين»، التي تعود إلى منتصف القرن التّاسع عشر. بعدما أخمد جيش الاستعمار ثورة شعبية، في منطقة القبائل/ الأمازيغ، قام بإعدام قادتها، قطع رؤوسهم، وأرسلها إلى باريس، هناك قاموا بتحنيطها، وإخضاعها لدراسات أنثوربولوجية، ليُكتشف أمرها، في 2011، وتتكرّر المطالبات باستعادتها، لدفنها في الجزائر، تخليدا لثورة شعبية من جهة، ومن جهة أخرى تذكّرا لما فعلته الحملة الكولونيالية في البلد. جماجم المقاومين لم تكن لتصل إلى فرنسا لولا ثورة شعبية، جاءت عقب سقوط دولة الأمير عبد القادر (1808 ـ 1883) عام 1947.
الأمير عبد القادر هو أكثر الأسماء تداولا في تاريخ الجزائر الحديث، وقد وقف الرّئيس الفرنسي، في زيارته الأخيرة، أمام تمثاله في وسط الجزائر العاصمة، في تحية رمزية لذكرى الرّجل، وإقرارا بدوره التّاريخي، ووعد ماكرون الجزائريين بالمساعدة في ترميم الذّاكرة والعمل على مُصالحة تاريخية، وتقريب وجهات النّظر بين الفرنسيين والجزائريين ـ مع العلم أنه أدان في وقت سابق ممارسات الاستعمار في الجزائر لكن، للغرابة، في الوقت الذي كان فيه ماكرون يقدّم وعودا ناعمة للجزائر، كان أرشيف الأمير عبد القادر يُباع، في مزاد علني، في فرنسا. كان ماكرون يقدّم خطابا رنانا، في الجزائر العاصمة، وأرشيف الماضي يبعثر في بلاده ويبدّد.
الأرشيف الذي بيع، من أيّام، يتضمّن وثائق جدّ مهمّة، تخدم المؤرخين، وتفيد في فهم مرحلة النّصف الأوّل من القرن التّاسع عشر، في الجزائر، واستيعاب بعض تفصيلات ثورة الأمير عبد القادر، وسنوات سجنه في فرنسا. تضّمنت المبيعات رسائل شخصية، موقّعة من الأمير عبد القادر، لمسؤولين سياسيين فرنسيين وقادة عسكريين. منها رسالة كتبها إلى إدوارد دروين دولهويس، وزير الخارجية في الجمهورية الفرنسية الثّانية، بتاريخ 28 يونيو/حزيران 1849، تحدّث فيها عن معركة وقعت في بورصة (تركيا)، يعبّر فيها الأمير عن التزامه بالسّلم، وخيار وقف الحرب.
ورسالة أخرى، موقّعة في 31 مارس/آذار 1836، لضابط يدعى فرنسونين، يعبّر فيها الأمير عن شكوكه حول هذا الضّابط، الذي كان يقدّم نفسه باعتباره مندوباّ للماريشال كلوزيل. ومجموعة رسائل أخرى، ذات أهمية، كتبها الأمير إلى القائد الحاجي الطّاهر، يُطالبه فيها بمواصلة الحرب، وعدم التّراجع، بالإضافة إلى وثيقة أخرى، من توقيع الأمير كذلك عام 1847، يذكر فيها أهمية العمل بنظام الضرائب، باعتباره الدّخل الرّئيسي في الدّولة. ورسالة وجهها عام 1849 إلى الجنرال جوزيف مارسولين روليار، يطلب منه فيها حقّه في أداء الحجّ، مع رفاق له، التزما بوعود الدّولة الفرنسية تجاهه. كما لا يتوانى، في الرّسالة نفسها، عن شكر فرنسا لما وفرته له ولرفاقه، من معاملة حسنة. أرشيف الأمير عبد القادر، من رسائل ووثائق شخصية، بيع بأكثر من عشرة آلاف يورو، في غاليري «غرو وديليتراز» في باريس.
المزاد، الذي أقيم في باريس، في وقت كان فيه ماكرون يزور الجزائر، ويعدها بتسريع تسليم الأرشيف، تضمن مبيعات لوثائق تاريخية أخرى مهمّة، من بينها رسالة وقّعها الدّاي حسين (1764 ـ 1838)، آخر دايات الجزائر، في 14 ديسمبر/كانون الأول 1814، تتعلّق بالسّماح ليهود الجزائر بممارسة شعائرهم الدّينية في حريّة. ورسالة أخرى من أحمد باي، الذي قاد، في الوقت نفسه مع الأمير عبد القادر، مقاومة شرسة ضد احتلال قسنطينة، موقّعة في 1851، أي أياما قبل وفاته، موجّهة إلى أنطوان ريشبانس، يهنئه فيها بتقلّده رتبة جنرال، بالإضافة إلى رسالة من إبراهيم باي إلى الجنرال الفرنسي جوزيف ماري غاستون دارلونج، موقّعة عام 1836، يتحدّث فيها عن ظهور وباء الكوليرا في مدينة معسكر (وهي مدينة الأمير عبد القادر). مع رسالة أخرى إلى الجنرال نفسه، من مصطفى بن إسماعيل، الذي التحق بالجيش الفرنسي وعيّن جنرالا، وقاد معارك ضدّ جيش الأمير عبد القادر.
لم يتوقّف المزاد على هذه الرّسائل التّاريخية المهمّة، التي من شأنها أن تفتح أعين الباحثين والمختصين، على حقب رمادية، غير معروفة من تاريخ البلد، فقد عرض الغاليري الباريسي نفسه مخطوطات لواحد من الكتّاب والفنانين المهمّين: إيتيان ديني أو ناصر الدّين ديني (بعد اعتناقه الإسلام)، الذي عاش ومات ودُفن في الجزائر، حيث بيع المخطوط الأصلي من كتابه الشّهير «حياة محمد»، بحوالي 20 ألف يورو، وهو كتاب سيرة النّبي محمد، الذي كتبه ديني برفقة صديقه المقرّب سليمان بن إبراهيم. مع مخطوط كتاب آخر لإيتيان ديني: «سراب».
قبل ثلاثين سنة، أنشأت الجزائر متحفا وطنيا باسم إيتيان ديني، لكنه لا يتوافر على أي مخطوطة أصلية من مخطوطات الفنّان. تضمن المزاد مبيعات لعدد كبير من لوحات فنية، صور ورسومات لمدينتي الجزائر العاصمة وقسنطينة، تعود إلى القرن التّاسع عشر، وصورة تقريبية للولي الصّالح سيدي عبد الرحمن الجيلالي، عثر عليها في الجزائر العاصمة، في السّنوات الأولى من الاحتلال الفرنسي للبلد.
أرشيف الجزائر في فرنسا، هو واحد من المواضيع الشّائكة بين البلدين، لا يكاد يمرّ عام بدون أن يعود الحديث عن هذ المسألة.
ظاهريا، الجزائر الرّسمية لم تتوقّف عن المطالبة باستعادة أرشيفها، وفرنسا لم تتوقّف عن تقديم وعود بتسليمها ما تمتلكه من وثائق مطبوعة أو مسموعة أو مصوّرة. لكن في الواقع، وخلف السّتار، القضية تدور، بشكل مختلف، الجزائر تُطالب بأرشيف انتقائي، أرشيف يخدمها ولا يسبّب لها حرجا، فليس كلّ الأرشيف يصبّ في مصلحة النّظام، وفرنسا كحكومة لا تمتلك الحقّ في التّصرّف في كلّ الأرشيف، الموجود عندها.
لكن حين يتعلّق الأمر بمزاد علني، يعرض فيه أرشيف مهمّ خاص بالجزائر، خصوصا في ما يتعلّق بالأمير عبد القادر، مؤسّس الدّولة الحديثة، ورمز البلد، ويُباع لأشخاص عاديين، هنا المسؤولية تقع على عاتق الدّولة الجزائرية، التي لم تتصرّف كما يجب، لم تبذل جهدا يُحسب لها، لحيازة جزء من ذاكرتها، التي باتت تُباع وتُشترى أمام عينيها.
كان يمكن ـ على الأقل ـ أن تُبادر لاقتناء معروضات غاليري «غرو وديليتراز»، وتكسب واحدة من معارك الذّاكرة، على الهامش. الحفاظ على الذّاكرة وامتلاك أرشيف سيسمح باستمرار التّاريخ، وتجنب ردمه باكرا.
يبدو أن ما يهمّ المؤسسات الرّسمية، في البلد، هو الظّهور في صورة «الندّ» للمُستعمر القديم، تنويع الخرجات الإعلامية، أمام النّاس، والمجاهرة بمحاولاتها ـ المتكرّرة ـ في استعادة الأرشيف، وعلى أرض الواقع لا يظهر لها أثر.
من جانبهم، يواصل الفرنسيون تقديم وعود في منح «هدايا أرشيفية» إلى الجزائر بدون أن يتجسّد شيء ـ ملموس ـ على الأقل، لحدّ السّاعة.
لقد وعد الرّئيس ماكرون بالعمل على تسليم السّلطات الجزائرية جماجم المُقاومين، المحتجزة في باريس منذ قرابة القرن ونصف القرن، لكن كيف نستعيد الأرشيف الآخر، المكتوب ـ وهو الأكثر أهمية ـ الذي بيع، قبل أيّام، ويُباع غيره، كلّ سنة، بدون أن تُبادر الجزائر لاسترداده؟
عذراً التعليقات مغلقة