تلوح في الأفق ملامح صفقة ثلاثية الأضلاع، روسية ــ إيرانية ــ تركية على حساب سورية وشعبها، تقوم على أسس عديدة، تمكن ملاحظتها من تتبع كلمات الرؤساء الثلاثة، فلاديمير بوتين، وحسن روحاني، ورجب طيب أردوغان، قبل قمة سوتشي وبعدها، أمس الأربعاء: ــ اعتماد حلول كتابة دستور جديد وإجراء انتخابات ومشاركة للمعارضة في السلطة، على حساب مرحلة انتقالية على أساس بيان جنيف 2012 الذي تجري على أساسه مفاوضات جنيف، والتي بالكاد ذكرت أمس في المؤتمر الصحافي الختامي للرؤساء الثلاثة. ــ تبنٍّ ثلاثي لمؤتمر سوتشي المقرر عقده في وقت لاحق تحت اسم “الحوار السوري الشامل” أو “مؤتمر الشعوب السورية”، على أساس مسار أستانة الأمني لا السياسي، وهو تهميش إضافي لمسار جنيف. ــ تنازل تركي عن مطلب المرحلة الانتقالية من دون بشار الأسد ونظامه في مقابل ما قد يكون ضوءاً أخضر إيرانياً وروسياً للتخلص من “الخطر الكردي” على الحدود السورية بحسب ما ظهر في كلمة أردوغان. بناءً على هذه الملاحظات، أمكن لكثيرين التحدث عن صفقة ربما وجب انتظار رد الفعل الأميركي على عناوينها، وتفاعل أطياف واسعة من المعارضة السورية السياسية والمسلحة معها، أو عدمه، قبل التأكد من أنها ستسلك طريقها بنجاح.
وبدت موسكو مرتاحة لبقاء حليفها الأسد على رأس السلطة بعد تجنّب الحديث عن مصيره في أي تسوية، فيما تطالب المعارضة السورية برحيل الأسد في بداية الانتقال السياسي. من جهتها، فإن أنقرة ركزت على ضرورة إبعاد خطر “التنظيمات الإرهابية” عن أراضيها، في إشارة إلى القوات الكردية التي تعتبرها خطراً عليها، فيما كانت طهران تكرس دورها الأساسي في وضع أسس التسوية حول مستقبل سورية، مع تكرار حديثها عن دورها في “مكافحة الإرهاب” وشرعية وجودها في سورية.
كذلك فإن القمة أدت في نتيجتها إلى تعويم “مؤتمر الحوار الوطني” الذي تسعى موسكو لعقده في مدينة سوتشي، مع الانطلاق من مسار أستانة كأساس لعملية التسوية وتخفيف من أهمية مفاوضات جنيف، التي تصر المعارضة السورية عليها والقرارات التي نتجت عنها، كأرضية للوصول إلى حل للصراع. وعلى الرغم من حديث بوتين عن أن هناك فرصة حقيقية لإنهاء النزاع السوري تحتاج لتقديم “تنازلات” من كل الأطراف، ومن ضمنها الحكومة السورية، بدا أن مصير الأسد لن يكون ضمن هذه التنازلات، مع حديث بوتين عن التزام النظام السوري بالتسوية والانتخابات الحرة والإصلاحات الدستورية، من دون التطرق لمصير الأسد. مع العلم أنه سبق للمعارضة، ممثلة بالائتلاف الوطني السوري، المقرب من تركيا، أن رفضت المشاركة في مؤتمر سوتشي العتيد.
في المقابل، كان تركيز أردوغان على أن إبعاد “العناصر الإرهابية” من التسوية السياسية في سورية ما زال هو أولوية تركيا، من دون الحديث عن مصير الأسد، ما يدل على مقايضة ما دخلت فيها أنقرة ربما. وتأتي كل هذه التطورات في ظل ما يبدو من ابتعاد أميركي عن الملف السوري باستثناء دعم “قوات سورية الديمقراطية”، إضافة إلى مسعى السعودية لإخراج وفد تفاوضي جديد عن المعارضة السورية من خلال مؤتمر الرياض 2 وسط مخاوف من تخفيض سقف المطالب.
وفي ختام القمة الثلاثية عصر أمس، أعلن الرئيس الروسي الاتفاق على وثيقة تحدد الاتجاهات والمجالات للتعامل بين روسيا وتركيا وإيران حول سورية والمهام المستقبلية، مؤكداً “نحن موحّدون حول فكرة تسوية الأزمة السورية في إطار أستانة وخلق ظروف لتخفيض العنف وإعادة المهجرين”. ولفت بوتين إلى أن الدول الثلاث الضامنة (لاتفاق أستانة) تعمل لتثبيت مناطق خفض التصعيد في سورية وللحوار السوري-السوري بناء على القرار 2254، معلناً تكليف وزارات الخارجية والدفاع في البلدان الثلاثة لتحديد أطر زمنية وتقديرية لعقد مؤتمر “الحوار الوطني السوري” في سوتشي لتمثيل الأحزاب والفئات الإثنية والطائفية والحزبية للنظر بالنظام السياسي المستقبلي وصياغة دستور جديد وانتخابات برعاية الأمم المتحدة ثم التسوية السياسية في إطار عملية جنيف.
وأشار بوتين إلى أنه أطلع نظيريه التركي والإيراني على نتائج اجتماعه مع بشار الأسد يوم الاثنين الماضي، وأنه نقل لهما التزام “السلطات السورية” (النظام) بمبادئ الحل من دستور جديد وانتخابات حرة، معتبراً أن “السوريين أنفسهم يجب أن يقرروا مصيرهم”. كما أوضح أنه جرى خلال القمة الثلاثية التركيز على إعادة إعمار سورية ونزع الألغام “واتفقنا على تحفيز هذا العمل بالتعاون مع بقية الدول والمنظمات”. ورأى أن “هذه المفاوضات الثلاثية الروسية التركية الإيرانية ستسرع الحل السوري وستؤثر إيجاباً على الوضع في الشرق الأوسط بشكل عام”.
وكان الرئيس الروسي أعلن في كلمة له عند بدء القمة مع نظيريه، أن هناك “فرصة حقيقية” لإنهاء النزاع في سورية، مشدداً في الوقت نفسه على أن التسوية تفترض تقديم “تنازلات” من كل الأطراف. وقال بوتين “ظهرت فرصة حقيقية لإنهاء هذه الحرب الأهلية التي تعود إلى سنوات عدة”، مضيفاً: “من البديهي القول إن العملية لن تكون سهلة وتتطلب تسويات وتنازلات من جميع الأطراف، ومن بينهم الحكومة السورية”. وأوضح أن موسكو وطهران وأنقرة “ستبذل الجهود الأكثر فاعلية لجعل هذا العمل مثمراً بأكبر قدر ممكن”، معتبراً أنه “بفضل جهود روسيا وإيران وتركيا تمكّنا من تجنّب تفكك سورية ومنع وقوعها بأيدي إرهابيين دوليين”.
أما الرئيس التركي، فلم يشر في كلامه بعد انتهاء القمة، إلى مصير بشار الأسد، بل ركّز في كلمته على محاربة “الجماعات الإرهابية” في إشارة إلى التنظيمات الكردية التي تراها أنقرة خطراً على أمنها القومي. وأعلن أردوغان في المؤتمر الصحافي المشترك مع بوتين وروحاني، أن إبعاد العناصر الإرهابية (في إشارة إلى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي) من التسوية السياسية في سورية ما يزال من أولويات بلاده، مشدداً على أنه “لا ينبغي لأحد أن ينتظر منا الجلوس تحت سقف واحد مع تنظيم إرهابي يستهدف أمننا القومي”، مضيفاً: “نحن كتركيا نركز على إبعاد المنظمات الإرهابية التي تهدد سلامة سورية وأمن بلداننا، وهذا ما يحتل أولوية لنا. وإذا التزمنا بوحدة سورية فلا يمكننا أن نقبل وجود مثل هذه العصابات الدموية التي تهدد بلداننا”.
وقال إن “النقطة التي وصلنا إليها ستكون بصيص أمل لتحقيق الاستقرار في سورية”، معتبراً أن “إعلاننا المشترك اليوم خطوة أولى تعكس أسس تعاوننا، لكن نجاح هذا الجهد منوط بمواقف الأطراف السورية المعنية في مقدمتها النظام والمعارضة”. وأوضح ” لقد توصلنا إلى اتفاق في الآراء بشأن تقديم دعم لتفعيل عملية سياسية شاملة وحرة وشفافة تجري بقيادة واستضافة الشعب السوري، كما ينص على ذلك قرار مجلس الأمن رقم 2254″، آملاً “أن يكون لهذا التعاون المثمر بين دولنا (تركيا وروسيا وإيران) أثر إيجابي على المنطقة بأسرها، وأن يحد من التوتر في المنطقة وخطر الانشقاق الطائفي”.
وأوضح أنه جرى تقييم “اتفاقيات وقف النار ومناطق خفض التصعيد واجتماعات أستانة التي تشكل البنية التحتية لمسار جنيف، مع مراعاة كل القرارات الدولية حول سورية ومساعينا لإحلال السلام العادل في سورية وإيجاد حلول سياسية للأزمة”. وأعلن “الاتفاق على ضرورة اتخاذ إجراءات بناء الثقة للتأكد من وصول المساعدات الإنسانية بشكل حر إلى جميع السوريين المتأثرين بالأزمة”، معتبراً أن “هذا البيان الختامي (للقمة الثلاثية) سيكون أساساً للحل السوري.
من جهته، انطلق الرئيس الإيراني مما يعتبره انتصاراً على “داعش” في سورية والعراق، لافتاً إلى أن قواعد التنظيم في سورية والعراق معظمها مدمر، و”لا توجد أي مبررات لوجود قوات أجنبية في سورية من دون موافقة دمشق”، متحدثاً عن “توافق تشكّل في المنطقة لمكافحة الإرهاب”.
وأشار روحاني إلى أن الرؤساء الثلاثة في القمة أكدوا موافقتهم على إقامة اجتماع سوتشي (مؤتمر الحوار الوطني) ودعمهم له، موضحاً أن اجتماعا سيُعقد لوزراء الخارجية ورؤساء الأركان للتحضير لهذا المؤتمر، لافتاً إلى أن “الهدف الرئيسي هو عقد مؤتمر الحوار الوطني الشامل بمشاركة جميع ممثلي شرائح المجتمع السوري، ممن يدعمون الحكومة السورية ومعارضيها”. وأضاف أنه “من ذلك الاجتماع ستتمخض أرضية لتوفير دستور جديد لسورية، وبناءً على ذلك الدستور ستجري انتخابات حرة وعادلة”. ورأى روحاني أن السوريين النازحين سيتمكنون قريباً من العودة إلى بلدهم، معتبراً أن التعاون بين إيران وتركيا وروسيا قلص التوتر في سورية.
يُذكر أن روحاني عقد اجتماعاً مغلقاً مع نظيره التركي قبل القمة الثلاثية، قالت وكالة “الأناضول” إنه استمر 40 دقيقة. وشارك في الاجتماع من الجانب التركي إلى جانب أردوغان، رئيس أركان الجيش التركي الجنرال خلوصي أكار، ووزيرا الخارجية مولود جاويش أوغلو، والطاقة والموارد الطبيعية براءت ألبيرق، ورئيس الاستخبارات هاكان فيدان، والمتحدث باسم الرئاسة إبراهيم قالن.
هذه القمة استبقت زيارة يقوم بها المبعوث الدولي إلى سورية ستيفان دي ميستورا إلى موسكو اليوم الخميس، حيث يبحث مع وزيري الخارجية سيرغي لافروف والدفاع سيرغي شويغو التحضيرات لمؤتمر جنيف 8 ومؤتمر “الحوار الوطني السوري”. ومن المقرر أن تفتتح الجولة الثامنة من المفاوضات السورية في جنيف في 28 من هذا الشهر، أما مؤتمر “الحوار الوطني السوري” فمن المخطط أن ينعقد في 2 ديسمبر/كانون الثاني المقبل في مدينة سوتشي الروسية، وفق تسريبات لوكالات أنباء روسية.
Sorry Comments are closed