أشرف مسؤولون في النظام السوري على افتتاح أول معرض دولي في دمشق منذ بدء الثورة السورية، في 17 آب/ أغسطس وحتى الآن، ومع استمرار العمليات العسكرية في المناطق التي لاتزال تحت سيطرة الثوار و”داعش”، قال المدير العام للمعرض “فارس الكرتالي” لوكالة “فرانس برس” أن النظام يريد أن يكون المعرض “إشارة على بدء الإعمار”، وكما أعلنت الصحف الرسمية “إن سوريا جاهزة لبدء العمل”.
إعادة إعمار الذهب في سوريا
أثار احتمال عقد صفقات إعادة الإعمار المربحة طفرة في المصالح من قبل الحكومات والشركات التي تسعى إلى الربح من الدمار السوري. ويُذكر أن حلفاء النظام – روسيا وإيران – هما أبرز المستفيدين من الاندفاع الذهبي في إعادة إعمار سوريا، ولم تتخلف الصين عن الركب أيضاً.
قبل عامين تقريباً، أعلن وفد تجاري روسي في دمشق، أن الشركات الروسية ستقود عملية إعادة الإعمار في سوريا في مرحلة ما بعد الحرب. وقد مهدت هذه الزيارة الطريق لعقود تُقدر بمليار دولار. وفي الآونة الأخيرة، تمت مكافأة المقاولين الأمنيين الروس لدورهم في العمليات القتالية بعقود من النفط والغاز المربحة.
وقد وقعت إيران – التي كانت موالية رئيسية للنظام – صفقات تجارية جديدة مع سوريا، وشجعت مواطنيها على المضي قدماً في الإنفاق على المجال العقاري، مما أدى إلى ارتفاع أسعار العقارات في بعض المناطق الخاضعة لسيطرة النظام. كما أن إيران كان لديها أكبر حضور في المعرض الدولي بمشق حيث شاركت به أكثر من 40 شركة إيرانية.
أما بالنسبة للصين، فقد استضافت الحكومة الصينية في أوائل شهر أغسطس/ آب من هذا العام “المعرض التجاري الأول حول مشروعات إعادة الإعمار في سوريا” حيث أعلنت مجموعة أعمال صينية – عربية عن التزام الحكومة بمبلغ 2 مليار دولار لبناء مجمعات صناعية في سوريا.
وجيران سوريا أيضاً حريصون على الحصول على دور في إعادة إعمار سوريا، حيث استضافت الأردن في أواخر يوليو مؤتمراً دولياً لإعادة الإعمار “إعادة إعمار سوريا 2017” تحت رعاية جمعية المقاولين الأردنية ووزارة الأشغال العامة. وقد قال وزير المالية السابق أن لبنان يقوم بتوسيع ميناء طرابلس لاستيعاب ما يتوقعه المسؤولون من طلب ضخم على مواد البناء وهي “فرصة ينبغي على لبنان أخذها بعين الاعتبار وبكل جديّة” بحسب قوله.
وحتى الحكومات التي تدعم المعارضة تنتظر نصيبها أيضاً، حيث قال “عبدالرحمن عبدالله الزامل” رئيس مجلس الغرف التجارية السعودية في حديثه مع صحيفة تركية أثناء زيارة قام بها الرئيس التركي “أردوغان” إلى المملكة العربية السعودية في فبراير الماضي : “لن تستمر الحرب في سوريا لأكثر من عام، وستكون السعودية وتركيا معنيتان بإعادة الإعمار في سوريا “.
تداعيات الأزمة
في حين أن النظام يصقل صورة سوريا بعناية ويقدمها على أنها البلاد الأكثر استقراراً وفي طريقها للانتعاش وإحلال السلام ، لكن الواقع مختلف تماماً. إنّ اندفاع النظام إلى إعادة الإعمار قد يكون أكثر من مجرد مقدمة لتجديد العنف. ما نعرفه عن الظروف التي تشجع على تكرار العنف بعد الحرب الأهلية يُنذر بالشؤم حول ما يحدث في القضية السورية.
وتشير المعطيات الأخيرة إلى أن 90% من الحروب الأهلية وقعت منذ بداية هذا القرن في بلدان شهدت عنفاً جماعياً. وفي دراسة مركزة حول انهيار السلام بعد الحرب الأهلية يحدد “تشارلز كال” الإقصاء السياسي باعتباره أهم عامل يسهم في في تكرار العنف الجماعي. ويطرح “كال” تساؤلاً : “كيف يمكن في أعقاب الحرب الدامية أن تتمكن الجهات الفاعلة الخارجية من المساعدة على تعزيز مجتمع بإمكانه حل نزاعاته دون اللجوء إلى العنف الجماعي؟”
يكمن الجواب في المبادئ و الأولويات التي تقود الانعاش المبكر و إعادة الإعمار بعد انتهاء الصراع. في حين تُتخذ هذه التدابير للتخفيف من الشكاوى و الحد من اخفاقات الحوكمة التي تسببت في أعمال عنف جماعي، فإن احتمالات العودة تتضاءل. كل ما نعرفه عن نهج نظام الأسد لإعادة الإعمار يؤكد أنه سيؤدي إلى تفاقم العوامل التي دفعت بملايين المواطنين السوريين للنزول إلى الشوارع في عام 2011 ، ثم إلى انتفاضة مسلحة. و من غير المرجح استقرار عملية إعادة الإعمار بعد انتهاء الصراع في حال كانت لا تعالج المسائل الحاسمة المتعلقة بالشرعية والقدرات المؤسساتية، توفير الأمن للمواطنين، والإدماج السياسي.
وبالنسبة لنظام الأسد فإن إعادة الإعمار ليست وسيلة لتحقيق الانتعاش الاقتصادي والاصلاح الاجتماعي بل هي فرصة لإثراء الذات، ووسيلة لمكافأة الموالين ومعاقبة المعارضين له، وتركيزٌ لجهودها لإصلاح التحولات الاجتماعية والديموغرافية الناجمة عن ست سنوات من الصراع العنيف. و أكد الأسد بنفسه على هذه النية في خطاب ألقاه بمناسبة افتتاح معرض دمشق أثنى من خلاله على كل من إيران وروسيا وحزب الله، وأضاف أن سوريا “فقدت خيرة شبابها وبنيتها التحتية لكنها فازت بمجتمع أكثر صحة وأكثر تجانساً “. ووصف المحلل السياسي “عزمي بشارة” ادعاء الأسد بأنه “هتلري” وأنه تأكيد على نية الإبادة الجماعية وسياسات النزوح التي يتبعها النظام.
وفي خطابه .. واصل الأسد اتهام الرئيس التركي “أردوغان” بأنه غير جدير بالثقة و “متسول سياسي”، ورفض تركيا كشريك في إعادة الإعمار. وأكد على الشروط التي يمكن أن تقدم من خلالها الدول الأخرى دوراً في الانتعاش بعد انتهاء الصراع قائلاً: “لن يكون هناك تعاون أمني، ولا سفارات، ولا دور لبعض الدول التي تقول أنها تسعى للحل إلا بعد قطع علاقاتها علناً وبشكل لا لبس فيه مع الإرهاب. لن نسمح للأعداء والخصوم بأن يحققوا من خلال سياساتهم ما فشلوا بتحقيقه مع الإرهاب”.
وقال رئيس الوزراء “خميس” لوفد عماني في وقت سابق من هذا الشهر: “ستعطى أفضلية الاستثمار في سوريا لرجال الأعمال من الأصدقاء والدول الشقيقة التي وقفت إلى جانب سوريا في حربها ضد الإرهاب.
شروط مشاركة الجهات المانحة
إن نهج النظام في إعادة الإعمار، وحرص حلفائه وجيرانه على المشاركة في عملية من شأنها أن تؤدي إلى تفاقم أسباب الصراع لها آثار هامة بالنسبة للولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، اليابان، والمؤسسات الدولية مثل البنك الدولي الذي تتبادر إليه أسئلة حول ما إذا كان سيتم دعم إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع في سوريا وكيفية دعمها. ما لم تربط الجهات الفاعلة الخارجية مشاركتها في إعادة الإعمار بالمبادئ التي من شأنها أن تمهد لآفاق سلام دائم، فإن النصر العسكري المحتمل للنظام سيكون على الأرجح الجولة الأولى فقط في دورة أطول بكثير من الصراع العنيف.
وفي ضوء الكيفية التي ينوي بها النظام السعي لإعادة الإعمار، كيف يتوجب على الغرب والجهات الخارجية الأخرى التجاوب ؟ أي نوع من مناهج إعادة الإعمار قد يمنع موجة جديدة من العنف في المستقبل؟
وللتخفيف من حدة الظروف التي أدت إلى نشوب حرب أهلية في سوريا وتقليل احتمالات نشوب الصراعات ينبغي أن تسترشد أنشطة الإعمار بقواعد بسيطة قليلة. هذه المبادئ التوجيهية تؤدي إلى مفهوم مختلف جداً و أكثر احتواءاً وأقل طموحاً للإعمار مما هو متوقع في مقترحات لسوريا، ولكن من المتوقع أن تحقق نتائج إيجابية للمواطنين السوريين.
وفيما يلي أهم أربعة من هذه القواعد:
1_ تجاوز الأسد: إن كل دول إعادة الإعمار التي تتعامل مع نظام الأسد معرضة للفساد وسوف تثري رموز النظام، وتعزز شرعية النظام، وتسهم في رؤيته المظلمة لسوريا “أكثر تجانساً”. إن القنوات العابرة للحدود من أجل إعادة الإعمار التي تتسم بالشفافية والمساءلة، وخارج سيطرة النظام، هي الطريقة الوحيدة لتجنب هذه الآثار. وفي المدى القريب، ينطوي ذلك على التركيز على المناطق التي تبقى خارج سيطرة النظام المباشرة.
2_ التوجه للمجتمع المحلي: في حال لم يتم توجيه الإدارة والتمويل لإعادة الإعمار إلى الجهات الفاعلة المحلية، فإن هذه المشاريع ستعكس الأهداف والأولويات السياسية لنظام الأسد بدلاً من المجتمعات المحلية. وبفضل الصلات الواسعة التي توصل إليها الفاعلون الخارجيون في المجتمعات المحلية في جميع أنحاء سوريا منذ عام 2011، توجد القدرة على تصميم إعادة الإعمار كمشروع من الألف إلى الياء، والتي من شأنها أن تعزز استقلالية الجهات الفاعلة المحلية وتعتمد عليها وتعكس الاحتياجات المحلية.
3_ الاعتماد على المشاريع الصغيرة: على الرغم من الحجم الكبير لاحتياجات إعادة الإعمار في سوريا، فإن التمويل على نطاق واسع سيعزز الفساد وعدم الكفاءة والهدر. وستكون الاستراتيجية التي تركز على إعادة الإعمار المحلي هي الأكثر فعالية إذا ما تمّ توسيع نطاق الموارد إلى الاحتياجات والقدرات المحلية. وفي المناطق الخارجة عن سيطرة النظام حيث يكون الدمار أقل حدّة مما هو عليه في المراكز الحضرية في غرب سوريا، يمكن أن يكون للإعمار على نطاق صغير آثار إيجابية كبيرة.
4_ عدم التعجّل وإطالة المخطط الزمني: إنّ الحاجة الملحّة لإعادة الإعمار هي حقيقة. لكن قد أدت ضرورة التحرك بسرعة إلى مشاريع ضعيفة التصميم وسيئة التنفيذ مراراً وتكراراً. ومن شأن مواءمة وتيرة دعم إعادة الإعمار لاستراتيجية ترتكز على القواعد المذكورة أعلاه أن يقلل من احتمال إغراق المجتمعات بالموارد التي لا يمكنها استيعابها بشكل فعّال. وتشارك الجهات الفاعلة الغربية في جهود محدودة للإنعاش المبكر في سوريا بما في ذلك المناطق التي تم تحريرها من داعش. ومع اقتراب الهزيمة العسكرية لداعش وتفعيل اتفاقيات القتال في مناطق واسعة من البلاد ، فإن التحول من العمليات القتالية إلى إعادة الإعمار سيتسارع.
وفي حين أن هذه القواعد بسيطة، فإنها لن تُقبل بسهولة من قبل الجهات المؤسساتية الرئيسية الفاعلة، مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي، التي غالباً ما تعمل فقط مع الحكومات المعترف بها. ومن المؤكد أنها مرفوضة من قبل نظام الأسد وحلفائه الرئيسيين. غير أ، هذه التحديات لاينبغي أن تمنع الجهات الفاعلة الخارجية من الإصرار على أ، مشاركتها في إعادة إعمار سوريا تتوقف على إذا ما كانت ستخفف من حدة الظروف التي تسببت في الحرب الأهلية السورية في المقام الأول بدلاً من تفاقمها. ومن شأن اتباع هذه القواعد أن يشكل خطوة هامة في هذا الاتجاه .
- دراسة أعدها المجلس الأطلسي “Atlantic council” – ترجمة: رانيا محمود – حرية برس ©
عذراً التعليقات مغلقة