* عمر قدور
غداة انقلابه عام 1970، أتى حافظ الأسد برئيس اتحاد الطلبة آنذاك متعب شنان، وعيّنه وزيراً للدفاع، وأتى بنقيب المعلمين أحمد الخطيب وعينه رئيساً للجمهورية، بينما تسلم هو رئاسة الحكومة الموقتة بضعة أشهر قبل تسلمه الرئاسة رسمياً.
أول وزير دفاع في عهده لم يكن عسكرياً، ولم يكن من رجالات السياسة أو رجالات البعث المعروفين، وكان مفهوماً أن الأسد يريد بقاء المنصب شاغراً عملياً ليبقى هو على رأس الوزارة التي أدار منها الانقلاب على رفاقه.
وزير دفاع الأسد الأشهر كان مصطفى طلاس، الذي توفي في باريس قبل أسبوع، فهو بقي في المنصب 32 عاماً بدءاً من 1972. ووفاته حازت اهتماماً واسعاً في الأوساط السورية، للدور الذي يُعزى إليه في تثبيت حكم الأسد أو التغطية عليه، وأيضاً لما يشوب سيرته من طرائف جعلته موضع تندر أو سخرية. فالراحل كان الوحيد المستعد للإفصاح علناً عن بعض ما يتحرج باقي المسؤولين في قوله، مثل تصريحه لمجلة «دير شبيغل» الشهير بأنه مع حافظ الأسد وأن باقي الطاقم حصلوا على السلطة بالبارودة، ومن يريد أخذها فليأتِ ببارودة أقوى. أو من نوع إطلاق نعوت مشينة على مارغريت ثاتشر إثر اتهام نظام الأسد بالضلوع في تفجيرات لوكربي، بما في ذلك تلميحه في مقال (نشرته آنذاك جريدة تشرين الرسمية) إلى خلوات خاصة تجمعها برونالد ريغان! وصولاً إلى تجرّئه في مذكراته على الحديث عن صلابة رأس حافظ الأسد، إذ كان ينطح زملاءه في الكلية العسكرية، حيث أدت ذكريات من هذا النوع إلى سحب المذكرات من الأسواق.
صورة طلاس لدى عموم السوريين أو متابعي الشأن السوري أنه كان وزيراً شكلياً للدفاع، فيما يرى قسم لا يُستهان به أنه كان مجرد واجهة سنيّة لجيش يسيطر عليه فعلياً ضباط علويون. في الحالتين، بتركيز على الجانب الطائفي أو من دونه، لا تقدم هذه الرواية المبسّطة معرفة جيدة عن مشروع حافظ الأسد الذي كان طلاس شريكاً كاملاً فيه، بما في ذلك قبوله لنفسه تلك الصورة المتهافتة لمنصبه، بل مبالغته فيها أحياناً.
يجوز وصف طلاس بأنه كان وزير الدفاع السوري ما بعد الأخير، إذا قلنا إن آخر وزير دفاع فعلي كان حافظ الأسد نفسه. فالأخير كان مثلاً يملك صلاحية الأمر بانسحاب القوات السورية من قسم كبير من الأراضي المحتلة عام 1967 قبل تعرضها لأي خطر، على ما ترويه وثائق إسرائيلية سرية كُشف عنها مؤخراً، والأهم أنه كان آخر وزير دفاع يسيطر على الجيش، ويستطيع من خلال سيطرته عليه تنفيذ انقلاب سلس وناجح. هذه الناحية تحديداً كانت الشغل الشاغل لحافظ الأسد، ولهذا السبب أتى بأول خلف له من خارج الشخصيات العسكرية أو المدنية ذات الوزن.
لقد كان طلاس شريكاً تاماً في تفريغ منصبه من أي معنى جدي له، وتطلب هذا تفريغ الجيش نفــسه من المعنى المتعارف عليه في الجيوش ذات التسلسل الهرمي. ما حدث وفق منهج متماسك منذ انقلاب الأسد يفسر السهولة التي سيُقاد فيها الجيش مرةً إلى سحق التمرد «الإخواني» مع سحق مدينة حماة بأكملها، ومرة أخرى إلى تدمير وسحق البلد كله بعد اندلاع الثورة. المسألة لم تكن في الإتيان بشخص يرتضي أن يكون واجهة لمنصب، هي في تحطيم المؤسسة ذاتها برضا وتعاون من هو نظرياً في رأس الهرم منها.
كان شقيق حافظ الأسد رفعت، أيام كان الأول وزيراً للدفاع، قد أصبح قائداً لما يُعرف باسم سرايا الدفاع التي ورثت مهام الحرس القومي في حماية النظام، وكان صديق حافظ الأسد علي حيدر يرأس قوات النخبة المعروفة بالوحدات الخاصة، وفي السبعينات أُسِّس لواحد من ضباط بيت الأسد تشكيل يسمى سرايا الصراع، بينما كان يصعد نجم شفيق فياض قائد الفرقة الثالثة للمهام الخاصة أيضاً. في الواقع كان الجيش برمته يتحول إلى إقطاعيات عسكرية، يرتبط قائد كل منها مباشرة بشخص حافظ الأسد.
وظيفة تلك الإقطاعيات كانت واضحة لجهة حراسة نظام الأسد أولاً وأخيراً، وهذه «العقيدة القتالية» لم تكن سراً، بل كان منتسبو قوات النخبة تلك يُدربون على الطاعة المطلقة لقادة إقطاعياتهم، وعلى تقديس شخص الأسد بدرجات متفاوتة تكشف على مستوى تذلل أولئك القادة أمام رئيسهم. وحدهم منتسبو إقطاعية رفعت الأسد كانوا يكرسون تقديسهم لشخصه، باعتباره شقيق الرئيس ووريثه المنتظر، لتُحلّ الإقطاعية بعد تنحيته لمصلحة الابن باسل، ويُدعّم الحرس الجمهوري كقوة نخبة جديدة مع الفرقة الرابعة بقيادة فعلية من ماهر الأسد. تلك التربية العسكرية القائمة على التضحية بالذات تفسّر أيضاً حجم الخسائر البشرية الهائلة التي منيت بها قوات الأسد في جميع المعارك الداخلية والخارجية، إذ غالباً كان يُزجّ بالعناصر في مواجهات مكلفة بشرياً، وغير متوقعة من الخصم لهذا السبب، كأن يُقتحم حقل ألغام معروف من دون كاسحة ألغام كما حدث في إحدى المعارك في لبنان.
إلى جانب تلك الميليشيات، قوّى حافظ الأسد حضور المخابرات العسكرية لتكون عيناً إضافية على الجيش، وقوّى فرعاً مستقلاً هو المخابرات الجوية في دلالة على الأهمية التي يوليها لسلاح الطيران. وكما هو معلوم تداخلت صلاحيات هذه الأجهزة في شكل يؤدي إلى تنافسها لمصلحته، ولم توفّر عسكرياً أو مدنياً من قمعها.
هذا التاريخ، الذي كان مصطفى طلاس شريكاً فيه، لا يصحّ فيه التوقف عند سردية الواجهة السنية لتحكّم علويّ، لأنه تحت يافطة التآمر الطائفي يُغطى على تحولات أعمق أصابت المؤسسة العسكرية. استرجاعه سيكون مفيداً لفهم انكشاف البنية الصلبة للنظام منذ اندلاع الثورة عما تبقى من تلك الميليشيات فقط، ومن ثم تشكيل ميليشيات جديدة تحت مسميات مختلفة. ليست إيران من أدخل فكرة الميليشيات كما يُشاع الآن، وليست روسيا من يحارب هذا الطابع الميليشياوي، فهي أيضاً ماضية في تأسيس ميليشياتها الخاصة في سورية. ثمة نهج عمره نصف قرن يستحق أن يُسمى باسمه، وألا تكون المراهنة مستقبلاً على تعديل الميزان الطائفي، بل على التخلص نهائياً من كذبة كبرى اسمها الجيش السوري.
- نقلاً عن: الحياة اللندنية
عذراً التعليقات مغلقة