مع طول أمد الصراع في سوريا وعليها، وتدخل قوى إقليمية ودولية عديدة؛ بات الوضع فيها يسير نحو مزيد من التفتيت والتقسيم والتعفين، خاصة بعد توقيع كل من روسيا وإيران وتركيا في 4 مايو/أيار الماضي اتفاق “مناطق خفض التصعيد” في أستانا برعاية النظام الروسي وهندسته.
ولعل من السخرية أن يُبدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قلقه من احتمال تقسيم سوريا، في حين أفضى تدخله العسكري السافر فيها إلى إعادة تثبيت نظام بشار الأسد المجرم في ما بات يعرف بـ”سوريا المفيدة”، وتحويل “سوريا الأخرى” إلى مجموعة من المناطق المحاصرة والكانتونات، فيما أخذ الصراع على سوريا يتحول بشكل علني إلى تقاسم نفوذ بين الخائضين في الدم السوري، وعلى رأسهم روسيا وإيران.
معالم الصراع
ولعل الناظر إلى خريطة سوريا اليوم يرى بوضوح مفاصل ومعالم صراع نفوذ، حيث أضحى الساحل السوري وحمص منطقة نفوذ روسي بامتياز، توجد فيها عدة قواعد عسكرية وبحرية ومطارات روسية، لا يُسمح حتى لقوات النظام ومليشياته بالوجود فيها، بدءا من طرطوس وصولاً إلى اللاذقيةومروراً بمدينة حمص.
وتدار كل العمليات العسكرية الجوية ضد مناطق المعارضة من قاعدة حميميم، التي باتت مقراً لقيادة العمليات العسكرية الروسية، بينما بات من شبه المتوافق عليه مع روسيا وسواها أن مناطق شرق الفرات وجنوب سوريا هي مناطق نفوذ أميركية، تستخدم فيها الولايات المتحدة قوات سوريا الديمقراطية، التي عمادها الأساسي وحدات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، كمليشيا تحت الطلب لمقاتلة عناصر تنظيم الدولة (داعش) في الرقة وسواها.
ويثير ذلك مخاوف تركيا التي اكتفت بمناطق “درع الفرات”، وحجم دورها في الملف السوري، وراحت تراقب بتوجس وريبة مخطط حزب الاتحاد الديقمراطي الكردي (الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني)، الذي يستفيد من تنسيقه المبكر مع النظام ومن الدعم الأميركي العسكري له.
كما يستفيد من دعم قوى التحالف الدولي في معركة “غضب الفرات” من أجل توسيع مناطق سيطرته، وفرض رؤيته الانفصالية على سكان تلك المناطق. ووصل الأمر إلى حدّ أن أصبح لا يسمح للاجئين السوريين الفارين من المعارك في الرقة وسواها بالدخول إلى كانتوناته إلا بوجود كفيل، وكأنه بات يسيطر على دويلة لا علاقة لها بسوريا والسوريين.
وفي الجنوب السوري والجنوب الشرقي، وخاصة مناطق المثلث الحدودي بين سوريا والأردن والعراق؛ تدعم واشنطن قوات من “الجيش السوري الحر” -مؤلفة من جيش أسُود الشرقية، وقوات الشهيد أحمد العبدو، وجيش مغاوير الثورة، وجيش أحرار العشائر- لمقاتلة تنظيم الدولة في البادية السورية.
فيما تسابق إيران الجميع -بواسطة حرسها الثوري ومليشيات حزب الله اللبناني والميليشيات الطائفية الأخرى- لتأمين ممرّ بريّ يبدأ من طهران، ليمرّ ببغداد والموصل ويصل إلى دمشق وبيروت.
وفي نفس السياق؛ يسعى النظام ومليشياته إلى توسيع رقعة “سوريا المفيدة”، من خلال السيطرة على المناطق التي ينسحب منها تنظيم الدولة، فيما تحاول فصائل المعارضة السورية المسلحة الحفاظ على ما تبقى من مناطق تحت سيطرتها.
ولعل الخطير في الأمر هو أن الصراع في سوريا وعليها بدأ يتّخذ أبعاداً تُنذر بالأسوأ، خاصة في ظل غياب أي أفق لحل سياسي شامل، يفضي إلى انتقال سياسي للسلطة، بسبب غياب التفاهم الدولي، وخاصة التفاهم أميركا وروسيا، وتباعد أهداف إسترتيجية كل منهما في الملف السوري.
هذا إلى جانب كثرة عدد الخائضين في الدم السوري بشكل مباشر أو غير مباشر، مما يعني أن تسارع وتيرة التصعيد العسكري من مختلف الأطراف هدفه توسيع حدود سيطرة كل منها الميدانية وتكريسها على الأرض.
الدور الروسي
لقد انكشف تماماً أن التدخل العسكري الروسي -أو بالأحرى للنظام البوتيني (نسبة إلى الرئيس الروسي بوتين)- لم يكن من أجل محاربة تنظيم الدولة أو هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا)، ومساعدة السوريين للوصول إلى حلّ سياسي، حسبما يزعم ساسة موسكو.
بل هدفه تمكين النظام البوتيني من تثبيت وجوده العسكري المباشر في سوريا، والحفاظ على مصالحه وتوسيعها، حيث إن الاتفاقية التي وقعها النظام السوري في أغسطس/آب 2015 مع الطرف الروسي، تخول الأخير التحول إلى قوة احتلال لمدة غير محدودة، ولا يحاسَب عناصر الجيش الروسي بموجبها عن أي جريمة يرتكبونها بحق السوريين، كما لا يخضعون للتفتيش أو المساءلة.
وأسهم التدخل العسكري الروسي السافر في كبح جموع غالبية السوريين، ووأد ثورتهم التي كانت تنشد الحرية والخلاص من الاستبداد الأسدي. والحاصل هو أن هذا التدخل أدخل سوريا في مرحلة التقسيم إلى مناطق نفوذ وليس مناطق خفض التصعيد أو التوتر، حسبما يروّج له رموز النظام البوتيني.
وأصبح الصراع على سوريا يحتدم -بين الروس والإيرانيين من جهة، والتحالف الدولي الذي تقوده أميركا من جهة أخرى- على “تركة داعش”، تمهيداً لتثبيت واقع جديد على الأرض، لذلك تتسابق قوى الطرفين للسيطرة على مناطق محافظتيْ الرقة ودير الزور في مسعاهما لتحديد ملامح مرحلة ما بعد “داعش”.
وينظر النظام السوري ومعه نظام الملالي الإيراني إلى مناطق معينة في سوريا بوصفها مناطق ضرورية، خاصة تلك التي تدخل في إطار ما يسميه النظام “سوريا المفيدة”، التي تشمل العاصمة ومحيطها وصولاً إلى الحدود اللبنانية، ومدينتيْ حمص وحلب، والتوسع أكثر باتجاه البادية السورية وصولاً إلى الحدود العراقية.
الدور الإيراني
والمعضلة هي أن حلفاء أميركا في العراق يدفعون باتجاه تنفيذ المخطط الإيراني الرامي إلى وصل طهران بدمشق وبيروت عبر بغداد والموصل، وهذا يخالف إستراتيجية إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الهادفة إلى محاربة “داعشط والحدّ من النفوذ الإيراني في المنطقة.
بينما ينظر الروس بترقب إلى مسعى إيران لتوسيع مناطق نفوذها وسيطرتها عبر محاولة التقدم إلى جنوبي سوريا وشرقها، الأمر الذي يجعل نظام الملالي لاعباً أساسياً في صراع النفوذ، بفرضه وقائع على الأرض تؤسس لربط مناطق نفوذ في كل من العراق وسوريا ولبنان.
ويبرز العنصر الإيراني لاعبا أساسيا يسابق ممكنات أي تفاهم روسي أميركي سعياً منه إلى فرض أمر واقع ميداني، يؤمّن استمرار خطوط الإمداد من إيران إلى لبنان عبر العراق وسورية.
وفي ظل التحالف القوي ما بين الروس والإيرانيين؛ فإن القول بأن موسكو تحاول الحدّ من نفوذ إيران ومليشياتها في سوريا لا معنى له، ولا يمتلك أي وجاهة بالنظر إلى ممارسات وتوجهات ساسة الكرملين.
ويبدو أن الدور الذي تلعبه واشنطن في الجنوب السوري، والساعي إلى إقامة منطقتين آمنتين (واحدة في محافظة السويداء ضماناً لأمن إسرائيل وحدودها، وأخرى في محافظة درعا ضماناً لحدود الأردن وأمنه)؛ يواجه المساعي الإيرانية الحثيثة لبسط نفوذ في جنوب سوريا وشرقها.
كل ذلك لا يدخل في صراع النفوذ والسيطرة فقط، بل يترافق مع تثبيت وتوطيد النفوذ الإيراني عبر اتباع نهج التغيير الديموغرافي للمناطق التي تسيطر عليها المليشيات التابعة لإيران، وتوطين أفرادها وأسرهم في المناطق التي يتم ترحيل مقاتليها وسكانها، واستبدالهم بآخرين إما إيرانيين أو من حزب الله والمليشيات العراقية والأفغانية وسواها.
ويعول نظام الملالي -مع النظام السوري- على أن يتحول المستوطنون الجدد إلى جزء من كتلة طائفية متراصّة وموالية، تطبيقاً لما قاله الأسد من أن “سوريا ليست لمن يحمل جنسيتها بل لمن يدافع عنها”.
أي أنه في معيارية الأسد -الفاقد الشرعية والأهلية- باتت سوريا ليست للسوريين، بل ملكاً للمليشيات الإيرانية ومليشيا حزب الله والمرتزقة الأفغان والعراقيين وسواهم، ممن يقاتلون دفاعاً عن النظام، ولا شك في أن سوريا وفق هذه المعيارية باتت أيضاً للمحتلين الروس.
ويمكننا القول إنالمسعى التقسيمي في سوريا ليس جديداً على الروس والإيرانيين، بل يوجد متحقق في النهج والممارسات على الأرض. فقد تحدث نائب وزير الخارجية الروسي “سيرغي ريابكوف” عن اقتراح يعتمد تطبيق النظام الفدرالي للحكم المستقبلي في سوريا.
وهو أمر أثار تساؤلات ومخاوف من احتمال تقسيمها، خاصة عندما تناغم حديثه مع تحذير لوزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري بشأن وجود خطة بديلة إذا فشل تطبيق الهدنة في سوريا.
تُضاف إلى ذلك مسودة الدستور السوري التي وضعها الروس ووزعوها على وفديْ المعارضة والنظام في اجتماع أستانا الثاني، والتي تنظر إلى سوريا بوصفها مجموعة من المناطق والكيانات، ولا يصلح لها سوى النظام الفدرالي بين الإدارات الذاتية.
ومع ذلك كله؛ فإن واقع الحال السوري يشير إلى أن قيام أي كيان انقسامي سيعاني من اهتراء داخلي يفضي إلى هلاكه، في ظل نظام دموي سقط منذ اليوم الأول للثورة السورية.
ورغم أن مجريات الحرب الدائرة منذ عدة سنوات في سوريا قد أفرزت واقعاً جديداً يعكس وجود قوى عسكرية مختلفة، فإن هذه القوى لا تمثل أي جماعة بعينها في سوريا قومية كانت أم دينية، بل تمثل قوى مغتصبة للأرض، وتسعى إلى سلب إرادة السوريين، بعد تفريقهم إلى جماعات منفصلة ومكونات متنافرة.
المصدر: الجزيرة
عذراً التعليقات مغلقة