شغلت الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية مختلف أوساط الرأي العام الفرنسي، وحظيت بمتابعةٍ عربيةٍ وعالميةٍ غير مسبوقة، نظراً إلى انحسار التنافس بين مشروعين، الأول ليبرالي شعبي، يركّز على فرنسا الوطنية التعدّدية، وعلى الوحدة الأوروبية والانفتاح العولمي، بزعامة إيمانويل ماكرون، القادم من خارج المنظومة الحزبية التقليدية الفرنسية، والثاني يميني شعبوي متطرّف وعنصري، يركّز على القومية الفرنسية والانغلاق والهوس بالآخر ومعاداته، بزعامة مارين لوبان، رئيسة حزب الجبهة الوطنية.
وإن كان فوز ماكرون بمثابة انتصار لتيار شعبي متمرّد على الحزبية الفرنسية، إلا أنه شكل أيضاً هزيمةً للتيار الشعبوي اليميني المتطرّف، والأهم أنه أعاد تشكيل المشهد السياسي الفرنسي من جديد، إذ تراجع وزن (وتأثير) حركات وتيارات وأحزاب اليمين واليسار على حدّ سواء، مقابل ازدياد وزن اليمين المتطرّف، الممثل بحزب الجبهة الوطنية.
ويبدو أن الناخبين الفرنسيين أرادوا القطع مع المنظومة الحزبية التقليدية، بيسارها ويمينها، ومعاقبة أحزابها على سياساتها التي لم تنقذهم من البطالة، ولم توفر لهم الأمن والأمان، إلى جانب استيائهم من العمليات التي قاموا بها، من أجل حماية أصحاب رؤوس الأموال، وإنقاذهم من أزماتهم، والمحافظة على رواتب المسؤولين التنفيذيين، الأمر الذي أفضى إلى هبوط شعبيتها. وعلى الرغم من التحذيرات الواضحة التي وجهها الفرنسيون إلى أحزاب اليسار واليمين، في أكثر من مناسبة انتخابية سابقة، إلا أن من كان يصل إلى مركز صنع القرار من اليمين واليسار يواصل انتهاج السياسات والتوجهات نفسها، الأمر الذي أفضى إلى إحجام المواطن الفرنسي وتململه من الماراثونات الانتخابية، وفضّل أن ينهي مفارقاتٍ طويلةً من الصراع بإيصال كل من إيمانويل ماكرون ومارين لوبان للتنافس على رئاسة الجمهورية الفرنسية.
وجاء فوز ماكرون بعد حملةٍ انتخابية، تميّزت بحدّتها وبخروجها عن المألوف والتقليدي، استخدمت فيها كل الوسائل المتاحة والممكنة لدى كل من ماري لوبان، المرأة اليمينية المهووسة برمي كل الشرور على عالم الغير وشيطنة الآخر، والتي تنافست على أمل أن تصبح أول سيدةٍ تصل إلى قصر الإليزيه، وإيمانويل ماكرون الشاب القادم من عالم الاقتصاد، والبعيد عن مزاولة السياسة بشكلها الحزبي التقليدي، الأمر الذي كشف خللاً كبيراً في الحزبية الفرنسية، فيما بدت العملية الانتخابية كأنها صراع محموم، وصلت فيه حمّى المنافسة إلى حدّ جعلت كلاً منهما يستند إلى رؤيةٍ تسعى إلى الانتصار بأي ثمن.
ويجسّد وصول ماري لوبان إلى الجولة الثانية من المنافسة على كرسي الرئاسة الفرنسية، وحصولها على ثلث عدد أصوات الناخبين الفرنسيين، ظاهرة، ويثير مخاوف وتوجسات لدى غالبية مكونات الشعب الفرنسي، وسيكون له أثره الواسع على الداخل الفرنسي، بما قد يغير المستقبل السياسي لفرنسا وتوازناتها الاجتماعية، لأنه جاء وسط انقساماتٍ اجتماعيةٍ مهمةٍ، بنيت على نزعاتٍ عنصريةٍ وطبقية، وأسهمت في إحداث تغيراتٍ في الخريطة الانتخابية التقليدية، إلى جانب لجوء لوبان إلى حركاتٍ بهلوانية، أساسها مبنيٌّ على كراهية الآخر والعنصرية حيال المسلمين والمهاجرين، وتحميلهم مسؤولية فشل السياسات والأزمات، مع أن نموذج لوبان ليس وحيداً في العالم، لكنه الأكثر صفاقةً، مقارنة بالنموذج الذي ينمو منذ مدة، وينتشر بسرعة في بلدان الاتحاد الأوروبي وأميركا، حيث باتت أحزاب اليمين فيها تعتاش على خطاب العداء للآخر، وخصوصا العربي والإسلامي، وراحت تراكم مكاسبها الانتخابية على حساب معاناته، ليبلغ هذا الخطاب ذروته في خطاب ترامب العدائي في الانتخابات الرئاسية الأميركية التي فاز فيها.
وتمثل مارين لوبان، وقبلها والدها جون ماري لوبان، ظاهرة نامية في الغرب الأوروبي والأميركي، تمثل الرجل الأبيض الذي بنى خطابه على كراهية الآخر والاحتجاج على الوضع الراهن. وهي، وإن تلقت هزيمةً في هذه الانتخابات الرئاسية الفرنسية، إلا أنها تمثل ظاهرةً صاعدة، قد تعود في أي استحقاق مقبل، وعلى حساب تراجع الطبقة السياسية الفرنسية، ما يتطلب إعادة النظر في بنى الجمهورية الفرنسية الدستورية والسياسية والإدارية.
والحاصل أن فوز ماكرون لن يشكل قطيعةً مع اليمين المتطرّف، ولن يوقف حماس هذا اليمين في الوصول إلى حكم فرنسا، ولعل الاستحاق المهم المقبل، المتمثل في الانتخابات التشريعية، التي ستفضي إلى اختيار أعضاء البرلمان، سيلقي أثره على تحرّكات الرئيس الجديد وسياساته، كونه سيؤثر على طبيعة مؤسسات الحكم والسلطات والتشريع وتركيبتها وعملها، وعلى الإصلاحات التي يريد ماكرون القيام بها، من أجل تطوير البنى الاقتصادية والسياسية والإدارية، وبما يدعم الداخل الفرنسي، وجذب الفرنسيين المحبطين واللامبالين إلى المعسكر المناهض لأفكار اليمين المتطرّف الاستئصالية، واستعادة ريادة الدور الفرنسي في الاتحاد الأوروبي، والوقوف أمام محاولات اليمين الشعبوي في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وسواهما، الرامية إلى ضرب النادي الأوروبي، إضافة إلى مجابهة عدوانية فلاديمير بوتين حيال أوروبا الموحّدة، وتدخلاته لصالح اليمين الشعبوي، واتجاهاته المتطرّفة.
ولم يكن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ومعه معسكر إيران والنظام السوري وسائر رصفائه وحلفائه، سعداء بوصول ماكرون إلى كرسي الرئاسة الفرنسية، ولعل ما يهم أبناء الشعب السوري أن ماكرون ينظر إلى الأسد على أنه مجرم حربٍ تجب معاقبته، حيث أعلن أنه في حال انتخابه رئيساً لفرنسا، فإن إدارته ستعمل، مع الشركاء الدوليين، لوضع حد للأزمة السورية، وإنهاء حكم الأسد. وصرح عقب أزمة استخدام نظام الأسد الأسلحة الكيميائية في خان شيخون “علينا أن نتدخل ضد من يستخدمون الأسلحة الكيميائية لقتل المدنيين في سورية، ووضع حد لجرائم الأسد بحق الأبرياء، بعدما شكل الصمت الدولي عن تلك المجازر مبرراً لقتل مزيدٍ من الأطفال والنساء من دون ذنب، وهو ما لن يستمر”، الأمر الذي يشير إلى أن ماكرون سيؤكد استمرارية السياسة الفرنسية إزاء الملف السوري، المرتبطة بقيم الجمهورية الفرنسية، وفي طليعتها حقوق الإنسان التي لطخها نظام الأسد وحلفاؤه الإيرانيون والروس، بإمعانهم في قتل السوريين وتحطيم تطلعاتهم في الخلاص من الاستبداد.
Sorry Comments are closed