أربعة عشر يوماً لم أرتوي من ذاك الصوت الذي يهاتفني كل يوم وأنا لاجئة في بلاد الصقيع، أحاول جاهدة بأن لا أقحم نفسي في كتابة هذه المدونة، لكن لا سبيل للفرار من هذا القدر المحتم، جفت ينابيع العمر منذ ما يقارب السنة والنصف حين ودعته للمرة الأخيرة في إسطنبول “مطار أتاتورك الدولي”، جاء يودعني وكأنما يفقد شيئاً من روحه، كنت أنتظره في المطار إلى أن يصل إليّ، أراقب وجهه في كل الوجوه، أتكون هذه المرة الأخيرة التي سأبحث بها عن وجه أبي بين ضجيج المسافرين؟ لطالما حلمت بأن أصبح شابة ناضجة، كبيرة بما يكفي لتشق لنفسها طريقاً في هذه الحياة، لكن وأنا أحتمي بعكاز أبي لا أفارقه، أنام كل يوم على مصباحه المضاء ليلاً وهو يستمع لنشرته الإخبارية.
مضى على فراقنا سنة ونصف السنة، ولا سبيل للتواصل سوى هذا الهاتف الذي لا يسمن ولا يغني من جوع الحنين إليه. منذ ما يقارب الإسبوعين، كلّمني وكان في صوته شيءٌ من الخوف، كنت أشعر بارتجاف حنجرته وهو يخبرني عن الحال الأمني ل (عين الفيجة) -القرية التي تسقي العاصمة دمشق. -حاولت أن أهدئ من روعه أو ربما أن أعطي نفسي جرعة مسكن كي لا يبدأ عقلي في فرز الذعر داخل أوصالي، أغلقت الهاتف وأنا أستودعه عند الله.
انقطعت أخباره عني إلى ما يقارب الأربعة أيام، علمت من خلال مواقع التواصل الاجتماعي أن (وادي بردى-قرية عين الفيجة) تتعرض للقصف العنيف و أن حال الأهالي يرثى له، كنت كالتي تنتظر رسالة من عشيقها، أتردد لأرى هاتفي كل دقيقة، وكلما سمعت نغمة رسالة، هرعت إليها وأنا أتوسل أن تكون من ذاك الشاب الذي هرم لأجلي، أخيراً كلّمني وليته لم يفعل، كان في شدة اليأس، يختبئ بأحد الملاجئ، وجهه قاتم و عيونه غائرة، عجوز كبير لا يشبه والدي الذي كلمني منذ أربعة أيام، لا يقوى على الكلام، كان يقوى على البكاء فحسب، أخبرني بصوت متقطع أنه بخير و أنه يحمد الله أني لست معه، لأشهد هذا الدمار، أخبرته عن حال العاصمة “دمشق” وأنها جوفاء تستغيث من العطش، كان لا يملك رداً سوى البكاء، كنت أسمع بوضوح صوت محركات الطائرات التي تحوم فوق رؤوسهم، أمنع نفسي من الاستسلام للنحيب، أريد أن أكون أكثر صلابة أمام “طفل أبي”.
انقطع الاتصال وانقطعت معه أنفاسي، خلال ثانية فحسب شريط من الذكريات انسلّ أمام عيوني، قاطعته بإكمال أعبائي المنزلية مع ذرف القليل من العبرات التي تروي ظمأ وطني. أقدم عاصمة في التاريخ عطشى وأبي آخر ما تبقى لي من عائلتي نازح في ملجأ، وأنا بعيدة آلاف الاميال كالواهن الذي لا يقوى على الحراك.
انقضى على آخر مكالمة مع أبي الغالي حوالي الثمانية أيام، لم يزدد الحال بهم إلا سوء، فها هو بيت أقربائنا مدمر، ووالد صديقتي استشهد، وجيراننا أضحوا بلا مأوى، فقد تهدم بيت العمر نصب أعينهم، غدت قريتنا الجميلة فاحمة، مقفرة، خاوية على عروشها، وما عاد منزلنا مبتهج، صار بلا نوافذ، خالٍ من دفء أصحابه، أو ربما ما عاد قائماً أصلاً، بل ركام مكونٌ على الأرض الحزينة التي تغير عليها الطائرات من كل حدبٍ وصوب، فلم يصلني أي خبر إلى الأن عن بيتنا وربّ بيتنا النازح.
علمت من إحدى قريباتي التي تقيم في العاصمة، بأن والدي هاتفها قبل أسبوع وأخبرها أنه ترك القرية ونزح إلى قرية مجاورة، يجلس في مسجد يقتات على ذكرى زوجته التي رحلت وصار أرملها منذ ست سنوات، وشريط طفولة ابنته الوحيدة التي تعيش في الجانب الأخر من العالم، ومسنّ في الستين من عمره، لا يملك أصدقاء في رحلة الشقاء و النزوح سوى بضع عقاقير يحملها في جيبه، وقلبه العليل في صدره، وهاتفٌ رث لا يصله بأحد، يصبّر نفسه ويبث الأمل فيها لتبقى مقبلة على الحياة ” لدي الكثير لأعيش من أجله، لديّ (عائشة)، ولديّ شامٌ ظمأى لأسقيها ” .
* نقلاً عن: “مدونات الجزيرة“
عذراً التعليقات مغلقة