بعد اتفاق إجلاء المعارضة عن حلب الذي توصل إليه الجانبان، الروسي والتركي، اتفقت روسيا مع فصائل من المعارضة السورية، بوساطة تركية، على وقفٍ للعمليات العدائية يشمل الجبهات كافة. وأُعلِن الاتفاق في أنقرة في 29 ديسمبر/ كانون الثاني الماضي، على أن يبدأ تنفيذه في اليوم نفسه، وبضمانات تركية وروسية. وقد اتُّفق على أن يشكل وقف إطلاق النار بدايةً لعملية سياسية لحل الأزمة السورية، تنطلق أواخر يناير/ كانون الثاني الجاري في مدينة أستانا، عاصمة كازاخستان، بين النظام السوري والمعارضة. فما الذي يجعل هذا الاتفاق مختلفًا عن الاتفاقات السابقة؟ ولماذا قد ينجح الجهد التركي – الروسي في حل الأزمة السورية، في حين فشل الجهد السابق كله في وضع حدٍ لها؟ وهل هناك معطيات مختلفة في هذه المرة؟
فشل التفاهم الروسي – الأميركي
منذ التدخل العسكري الروسي في سورية في الثلاثين من سبتمبر/ أيلول 2015، توصلت الولايات المتحدة وروسيا إلى اتفاقين لوقف إطلاق النار، انبثق الأول من تفاهمات فيينا التي جرى التوصل إليها منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، ثم تضمينها في قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254 في 18 ديسمبر/ كانون الأول 2015. وجاء الاتفاق، الذي بدأ العمل به في 27 فبراير/ شباط 2016، بهدف تذليل العقبات أمام مفاوضات “جنيف 3″، والتي فشلت بسبب استمرار قصف النظام مناطق المعارضة، وإصراره على عدم إدخال مساعداتٍ إنسانية إلى المناطق المحاصرة. أما الاتفاق الثاني، فقد أُقِر بعد محادثاتٍ مكثفة بين وزيري الخارجية، الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف، بهدف تنسيق جهد الطرفين، لمواجهة التنظيمات المتطرفة في سورية (تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة)؛ وإحياء مفاوضات إنهاء الصراع في سورية. وأُعلن الاتفاق يوم التاسع من سبتمبر/ أيلول 2016. وقد فشل الاتفاقان المذكوران في الحفاظ على وقف الأعمال القتالية، بسبب اقتناع النظام السوري وإيران بإمكانية الحسم العسكري بعد التدخل الروسي، واستمرار الخلافات الروسية – الأميركية حول موضوع التنسيق الأمني، وإصرار الروس على “وحدة” المسارين، السوري والأوكراني. أراد النظام السوري وإيران والمليشيات المتحالفة معهما استغلال التدخل الروسي للحسم العسكري ضد المعارضة، في حين جاء التدخل الروسي لحماية النظام السوري الذي كان على حافة السقوط على الرغم من التدخل الإيراني، وإجبار الأطراف على التوصل إلى حل سياسي.
التقارب الروسي – التركي
بالتوازي مع تعمّق فجوة عدم الثقة بين الجانبين الروسي والأميركي، والتركي والأميركي، شهدت العلاقات التركية – الروسية تقاربًا مضطردًا، خصوصاً في المرحلة التي أعقبت المحاولة الانقلابية التي استهدفت إطاحة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وحكم حزب العدالة والتنمية منتصف يوليو/ تموز 2016، وتنامي الشكوك التركية بالنيات الأميركية في ضوء الدعم الكبير الذي تقدمه واشنطن لوحدات حماية الشعب الكردية في سورية.
أدى التقارب التركي – الروسي، واستعادة الرئيس أردوغان السيطرة على الجيش التركي، إلى تدخل تركيا عسكريًا على نطاق واسع في سورية، لأول مرة منذ بداية الأزمة، وكانت عملية “درع الفرات” التي انطلقت في أغسطس/ آب 2016 بمنزلة مؤشرٍ على تحول كبير في العلاقات التركية – الروسية. ومنذ فشل وقف إطلاق النار الثاني، ويأس الروس من التوصل إلى اتفاقٍ مع إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، يحقق مطالبهم في تنسيق أمني مشترك مع الجيش الأميركي في سورية، وافقت روسيا على الدخول في مفاوضاتٍ مباشرة مع فصائل من المعارضة السورية، استضافتها تركيا التي أخذت تقدّم نفسها وسيطاً في الصراع السوري، بعد أن كانت طرفاً داعمًا للمعارضة.
أسفر الجهد التركي عن اتفاق مع روسيا على إخراج مقاتلي المعارضة المحاصرين من حلب، وإلزام إيران وميليشياتها على الأرض بتنفيذه. وقد شجع نجاح الاتفاق الروسي – التركي حول حلب الطرفين على المضي باتجاه تصورٍ أشمل لحل المسألة السورية.
اتفاق أنقرة
بعد إخراج المعارضة من حلب، دعت موسكو إلى اجتماع سداسي، ضمّ وزراء خارجية ودفاع كل من روسيا وتركيا وإيران. وخرج الاجتماع الذي عقد في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2016 ببيان حمل اسم “إعلان موسكو”، وتضمّن خريطة للحل السياسي في سورية؛ تشمل توسيع وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في حلب، ليشمل الأراضي السورية والأطراف المتحاربة كافة، باستثناء جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقًا) وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وإحياء المسار السياسي الذي لم يحقق أي تقدم منذ انطلاقته برعاية دولية في يناير/ كانون الثاني 2014. وبالتوازي مع ذلك، جرت مفاوضات صعبة استضافتها تركيا بين روسيا وفصائل المعارضة السورية، أُعلن، في نهايتها، عن التوصل إلى “اتفاق أنقرة” الذي شمل ثلاث وثائق، تضمنت الأولى بنود وقف العمليات العدائية بين النظام والمعارضة، والثانية آليات مراقبة وقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة، وتناولت الثالثة سبل استئناف مفاوضات السلام في مدينة أستانا ومرجعيات التفاوض.
تميّز هذا الاتفاق عن الاتفاقات السابقة بغياب المماحكات الروسية – الأميركية التي أدت إلى فشل اتفاقي فبراير/ شباط وسبتمبر/ أيلول 2016، وحضور الطرفين الفاعلين الرئيسين في المسألة السورية؛ روسيا التي تعد الراعية الأكبر للنظام السوري، وتركيا صاحبة النفوذ الأكبر على المعارضة السورية. وقد تكفلت تركيا بضمان تنفيذ فصائل المعارضة التي وقعت على الاتفاق، والتي يتجاوز مجموع عدد مقاتليها ستين ألفًا، أما روسيا فقد تكفلت بالنظام وحلفائه من مليشيات وحرس ثوري إيراني. واستُبعد من الاتفاق كل من جبهة فتح الشام وتنظيم الدولة الإسلامية والفصائل الكردية. وأظهرت الوثائق التي نشرت اتفاق الطرفين الضامنين على تثبيت وقف إطلاق النار عن طريق نشر مراقبين روس وأتراك ونقاط تفتيش قرب مناطق الاشتباك. كما تم التوصل إلى آلياتٍ لتسجيل خروقات اتفاق وقف العمليات القتالية، ونظام معاقبة لمن يخرق الاتفاق. ولإعطاء الاتفاق غطاءً سياسيًا وقانونيًا دوليًا، اتجهت روسيا وتركيا إلى مجلس الأمن الذي رحب باتفاق وقف إطلاق النار بنص القرار رقم 2336، وأكّد على مرجعيات الحل السياسي المتمثلة بقرار مجلس الأمن 2254 وبيان “جنيف 1” لعام 2012.
ويتوقع أن يشكل الاتفاق الروسي – التركي في أنقرة خطوةً مهمةً على طريق الحل السياسي في سورية، فكل المؤشرات تدلّ على جدية الطرفين، ومصلحتهما، في السعي إلى الوصول بالأزمة السورية إلى نهايتها، فالروس يريدون، بعد أن قلبوا، بتدخلهم المعادلات الميدانية، إثبات قدرتهم على صنع السلام، انطلاقًا من حجم التأثير والنفوذ الذي باتوا يملكونه في سورية، وفي الفاعلين الإقليميين، كما أن روسيا لا تريد أن تغرق أكثر في المستنقع السوري، في ظل أوضاع اقتصادية سيئة تمرّ بها. أما تركيا فقد باتت تنظر إلى الأزمة السورية باعتبارها خطرًا يهدّد وحدتها واستقرارها، في ظل تنامي التهديدات الأمنية الناتجة من استمرار الصراع، إذ إنها تخوض حربًا مزدوجةً ضد تنظيم الدولة وحزب العمال الكردستاني في آن معًا، كما أن الدعم الأميركي للأكراد يزيد مخاوفها من احتمال إنشاء دولة قومية كردية في الشمال السوري. من هنا، يأتي حرص الطرفين، الروسي والتركي، على التوصل إلى حلٍ للأزمة السورية.
عقبات على طريق الحل
غابت إيران عن اتفاق حلب الذي أخرج المعارضة من المدينة، كما غابت عن اتفاق أنقرة الذي أسفر عن وقف إطلاق النار؛ فالاتفاقان كانا ثمرةَ جهدٍ ثنائيٍ روسي – تركي. ومع ذلك، حرص الروس والأتراك على ضم إيران إلى التسوية، لتحييد قدرتها على التعطيل، واعترافًا بنفوذها في النظام السوري، وذلك بدعوتها إلى اجتماع موسكو الثلاثي الذي صدر عنه “إعلان موسكو”. لكن إيران تبدي تحفظاتٍ على التحركات الروسية – التركية، كما أبدت استياءها من تجاهل موسكو طلبها اعتبار بعض فصائل المعارضة السورية المشاركة في محادثات أنقرة “إرهابية” (أحرار الشام وجيش الإسلام خصوصاً). ويتخذ الحرس الثوري تحديدًا مواقف متشدّدة ومتشكّكة إزاء مساعي موسكو وأنقرة إلى إنهاء الصراع، كما تتخوف أوساط إيرانية من وجود تفاهمات روسية – تركية غير معلنة تجاه الوضع في سورية.
وفيما حاول الحرس الثوري الإيراني (عن طريق مليشيا حزب الله اللبناني والنجباء العراقية) نسف اتفاق حلب، لمعارضته خروج المعارضة سالمةً من المدينة، يحاول الحرس الثوري، عبر حزب الله أيضًا، نسف اتفاق وقف إطلاق النار من خلال استمرار استهداف قرى وبلدات وادي بردى والغوطة الشرقية في ريف العاصمة دمشق، متجاهلًا اتفاق أنقرة. وما لم تتمكّن موسكو من ضبط سلوك الحرس الثوري ومليشياته، فإن وقف إطلاق النار سوف يكون عرضةً للانهيار حتمًا. وبينما يبدي الحرس الثوري تشدّدًا تجاه الأزمة السورية، ويدفع باتجاه حل عسكري، يرى الواقعيون في طهران، وفي مقدمهم الرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته جواد ظريف، ضرورة عدم الاصطدام بمساعي موسكو لحل الأزمة السورية، خصوصاً مع ازدياد الحاجة الإيرانية إلى روسيا مع اقتراب استلام إدارة دونالد ترامب الحكم في واشنطن، والتوقعات بزيادة ضغوطها على إيران. ويبدو أن قرب تسلم ترامب الحكم من أدوات الضغط التي تمارسها روسيا على إيران.
من جهة أخرى، يمثل وضع جبهة فتح الشام (النصرة) قنبلةً موقوتة أخرى في قلب اتفاق أنقرة، وسط اختلاف التفسيرات حول إن كان وقف إطلاق النار يشملها. ففصائل المعارضة السورية تقول إن اتفاق أنقرة لا يستثني إلا تنظيم الدولة الإسلامية من وقف إطلاق النار؛ ما يعني أن “النصرة” مشمولة في الاتفاق. وقد أصرت المعارضة على هذا الأمر، لأن ضرب “النصرة” طالما استخدم ذريعة من النظام وحلفائه لضرب فصائل المعارضة الأخرى؛ وهو ما كان من أسباب فشل اتفاقات الهدنة السابقة.
ولا تزال المعارضة المسلحة عاجزةً عن تنفيذ الخيار الوحيد الذي يقطع الطريق على النظام وحلفائه المليشياويين على أنواعهم، وذلك بحل الفصائل كلها، والاندماج في جيش وطني سوري حر، ملتزم بمبادئ ثورة عام 2011 وعلمها، وإقصاء كل من يرفض هذا الاندماج.
عدا عن ذلك، يبدو واضحًا أن نجاح الجهد الروسي – التركي لحل الأزمة السورية سوف يرتبط بصورةٍ وثيقةٍ أيضًا بتعاون بقية الأطراف الإقليمية والدولية، ذات الصلة بالصراع السوري، وفي مقدمها الإدارة الأميركية القادمة، وما إن كانت مهتمةً بدعم المساعي الروسية – التركية للتوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية.
خاتمة
من بين كل المحاولات السابقة لوقف القتال في سورية، وتمهيد الطريق لحل سياسي يضع حدًاً لمعاناة الشعب السوري، ويحقق تطلعاته في حياةٍ ديمقراطية، حرة وكريمة، يبدو الجهد الروسي – التركي الأخير الأكثر جديةً، كما أن احتمالات نجاحه تبدو أكبر مقارنةً بما سبق. ويعود السبب في ذلك إلى النفوذ الكبير الذي يملكه الروس والأتراك لدى أطراف الصراع السوريين والإقليميين، وظهور ما يشبه حالة إجماع دولي وإقليمي على وجوب إنهاء الأزمة التي شملت أضرارها الجميع بدرجاتٍ متفاوتة. ومع ذلك، سوف تكتنف صعوبات كبيرة إمكانية التوصل إلى حل، وقد تحصل جولات قتال أخرى، قبل الوصول إلى هذه النقطة، بسبب تباين توقعات مختلف الأطراف حول طبيعة هذا الحل ومخرجاته، خصوصاً في ظل تمسّك النظام السوري بأدبياته حول الأزمة، ومساعيه إلى تحقيق مكاسب على الأرض، تجري ترجمتها على طاولة المفاوضات، وموقف إيران المتماهي معه في هذا الشأن. في الوقت نفسه، لا تزال التحديات ماثلةً أمام المعارضة باتجاه تقديم بديل مقنع (سياسي وعسكري) يكون على مستوى التضحيات التي قدّمها الشعب السوري، والبسالة التي واجه بها أحد أسوأ الأنظمة التي واجهها أي شعبٍ في سعيه نحو التحرّر من الطغيان.
المصدر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
عذراً التعليقات مغلقة