- خديجة جعفر
حملة غير مسبوقة تشنّها الميليشيّات الإيرانية والأفغانية واللبنانية الشيعية، بالإضافة للميليشيات الأسدية المدعومة بغطاء جوي روسي على الجزء الشرقي الشمالي من حلب. فخلال الأسبوع الماضي وحده، قُتل المئات من المدنيين تحت القصف الروسي ونزح حوالي 25 ألف مدني من الأحياء التي داهمتها الميليشيات المداهنة للأسد. نزح المدنيون المنكوبون إلى الأحياء الواقعة تحت سيطرة الأكراد، وإلى الأحياء الأخرى الواقعة تحت سيطرة الأسد نفسه.
مئات الصور من الخراب والدمار، وأخرى من جثث الأطفال والنساء الملقاة على الأرض في مشهد لم يعد للموت فيه قداسة، ولم يعد اللحظة التي تتوقف فيها الحياة ليقضي الأحياء فيها برهة من جلال الصمت، ويرعوا فيها الحزن على أحبائهم الذين فارقوا الحياة.
في سوريا، وفي حلب خصوصًا، لم يعد القتل جريمة نكراء تستحق من العالم الاشمئزاز والتقزز، وتستحق من ذوي ضحاياها الأحياء تذكّرَ وتكريمَ ضحاياهم. عاد قتل الناس فعلاً اعتياديًّا يوميًّا لا يثير أي شعور بالاستغراب أو الرفض أو الإنكار أو الخوف. لم يعد العالم يخاف أو يتأثر لصور الموت والقتل التي تنتشر يوميًا على تويتر وفيس بوك وكأنّها صور عاديّة جدًا! وكأنّ حلب تقع في كوكبٍ آخر! وكأنّ شبح القتل اختُصّ بحلب دون غيرها، وإن أراد الفتك بآخرين، فسيفتك بهم في إدلب أو في الغوطة، أو في أي مدينة سورية أخرى قالت للأسد: لا.
العالم متواطئ، مرة بالصمت المطبق، ومرة بمشاهدة صور أشلاء القتلى تحت الأنقاض ثمّ تجاهلها، ومرة بالأنانية المطلقة التي تجعل الآمنين يخشون أن يخدش أمنهم خادش، في حين يلهثون بالدعاء لله أن يفعل شيئًا ما لأجل إنقاذ أطفال حلب!
العالم يعلم أنّها حرب إبادة، وأنّ “الإبادة” جريمة أصبح القانون يعاقب عليها منذ تجريمه الهولوكوست، ولكنّ العالم لا يفعل شيئًا لإيقاف إبادة تحدث على الهواء مباشرة! تحولت إلى ما يشبه مسلسل التراجيديا الطويل الذي يتفرج العالم على حلقات مآسيه ساعة في اليوم، ثم يواصل حياته اليومية الآمنة.
سامانثا باور، مندوبة الولايات المتحدة أمام مجلس الأمن، تعلم جيدًا أنّ ما يحدث في سوريا وفي حلب خصوصًا هي حرب إبادة. وحين تخبر مجلس الأمن بذلك، فإنّه لا يحرك ساكنًا. وكذلك يعلم جون كيري، وكذلك يعلم أوباما. ولكنّ مجلس “أمم” الأرض لا يفعل شيئًا لأجل إنقاذ أمّة من أمم الأرض.
أمّا روسيا نفسها، وإيران، فهما غير مكترثتين للقانون الدولي أو غيره. ولا تريان فيما تفعله من جرائم جماعية وجرائم ضد الإنسانية أي شيء يمكن أن تخجلا منه. وكأنهما في حصن حصين من المساءلة والعقاب.
العالم له مصالح إذًا، ليس له أخلاق، وليس له قلب. كما أنّ العالم يرى نفسه مقسمًا إلى أقوام، كل قوم له قطعة من الأرض، وله مصالح ضيقة، وأمنه مقدّم على أمن غيره من الأقوام. لا يعبأ كل قوم بأمن القوم الآخر.
وحين تقرر الولايات المتحدة أنّها مترددة في دعم المعارضة المسلحة في حلب لأنّ الفصائل المعتدلة متحالفة مع فصيل “فتح الشام” الذي لا تعترف أمريكا بانفكاكه عن القاعدة. فإنّ على جميع الحلبيين المحاصرين أن يدفعوا ثمن هذا التردد. لم يشفع لفتح الشام أن أصاب طيران التحالف الدولي مدنيين منها، ثمّ لم تهدد أمن الولايات المتحدة ولو بالقول. لم يشفع للحلبيين المحاصرين أنهم لا ذنب لهم، وأنهم يتعرضون للذبح اليومي والقصف اليومي، وهم يعلمون أنّ العالم يشاهدهم ولا يفعل شيئًا. لم يشفع للطفلة “بانة العابد” التي كانت تغرد بمساعدة والدتها عن حياة عائلتها تحت القصف، وعن خوفها اليومي، لم يشفع لها استغاثاتها للعالم أن ينقذها! قصف الطيران منزل عائلة بانة، لتواجه مصيرًا مجهولًا لها ولنا حتى هذه اللحظة.
في الأسابيع القليلة القادمة يتقرر مصير حلب، ويتقرر مصير الأحياء القاطنين فيه، الذين يحملون أرواحهم على أكفّهم، لوحش القتل الذي يمارس عادته اليومية في قنص أرواح الأبرياء. وحتى يحدث ذلك، فسيستمر العالم بالتفرج، وسيستمر بمشاهدة صور القتل والموت والأشلاء والدمار دون أن يحدث شيء. وستسمر مجموعات عمل سوريا في الاجتماع المتكرر لتناقش خوف الولايات المتحدة من الجهاديين، لا خوف الحلبيين من روسيا وإيران ومن الميليشيات المتكالبة عليهم. وحين ينتهي كل ذلك، سنصحو ذات يوم لنسمع أنّ حلب قد وقعت في قبضة الأسد.
عذراً التعليقات مغلقة