* د. برهان غليون
حسناً فعل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تنظيمه مؤتمراً عن دور الجيش في السياسة في البلاد العربية، فالواقع أن تاريخ هذه السياسة في جميع الأقطار لا ينفصل عن تاريخ الجيوش وتكوينها، ومنذ القرن التاسع عشر بالنسبة لبعض الأقطار. ومن الصعب فهم كثير من مسائل السياسة العربية بمعزل عن فهم هذا الدور وأسبابه ومآلاته، بل أصبح هذا الدور يتجاوز اليوم، مع تفاقم أزمة الدولة العربية، مسألة تفرّد القادة العسكريين بالسلطة، كما حصل حتى الخمسينيات من القرن الماضي، وينزع إلى ما أطلق عليه مدير عام المركز العربي، الدكتور عزمي بشارة، في محاضرته الافتتاحية الغنية، عسكرة الدولة والمجتمع، ما يعني تلويث النظام الاجتماعي بأكمله، وتفريغ المجتمع من دينامياته المختلفة لصالح ضبطه عسكرياً وأمنيا من الداخل. وفي اعتقادي، أن الأمر يتجه، اليوم، إلى أبعد من ذلك، ويجنح إلى ترسيخ عقيدة التمييز شبه العنصري ضد المجتمع، وتفقد الدولة طابعها الوطني، وتتحوّل إلى أداة للسيطرة في يد أليغارشية واحدة، تجمع بين جميع أصحاب المصالح والنفوذ من النخب العسكرية والسياسية والاقتصادية، وتتخلى عملياً عن مفهوم الدولة الوطنية لصالح دولة النخبة الخاصة. ولا يمكن ضمان ذلك، من دون تقديم الخيار العسكري، أي الأمني والمخابراتي، لتنظيم المجتمع، على أي خيار آخر. وهذا ما كنت قد أثرته وحذرت منه، في كتاب “المحنة العربية: الدولة ضد الأمة” التي نشر في أول التسعينيات من القرن الماضي.
وعلى سبيل المساهمة في هذه النقاشات المهمة التي لن نتوقف بالتاكيد عن تناولها في السنوات المقبلة، رأيت من المفيد الإشارة إلى ملاحظاتٍ متعلقة بتناول هذه الإشكالية الكبرى.
الأولى، أن من غير الممكن فهم الموقع الذي يحتله الجيش، من دون وضعه في سياق العلاقات مع المؤسسات الأخرى، السياسية والاجتماعية. بمعنى آخر، المؤسسة العسكرية جزء من بنية
“لا يمكن إصلاح الجيش، وتقنين دوره في المجتمع، من دون إصلاح الدولة، أو بالأحرى إعادة بنائها على أسسٍ قانونيةٍ، تضمن فصل السلطات الدافع إلى إنتاج نخبٍ اجتماعيةٍ متميزة ومتكاملةٍ لا متنازعة” الدولة ومن منظومتها، ولا تتشكل وتتحرّك في الفراغ. ولا يستقيم فهم الدور الذي وقع على كاهل النخبة العسكرية، من دون فهم تطور الدولة نفسها وإعاقة تكوينها، في المشرق العربي خصوصاً، فهي، في نظري، لا تزال نموذجاً للدولة غير المنجزة. وبالتالي، لا تزال مؤسساتها، بما فيها العسكرية، غير ناجزة، كما لا تزال الاختصاصات والوظائف التي ترتبط بها غير محدّدة وغير مميزة أيضا. وعلى الرغم من تعدّد مؤسساتها، تفتقر دولنا لنخب متعدّدة سياسية واقتصادية وعسكرية متميزة ومدركة حدود صلاحياتها وأصول عملها، والمهام الخاصة المكلفة بها. وتكاد تختصر بنخبةٍ هلاميةٍ واحدة، تفتقر للتكوين والتأهيل الجدّي، وعلى استعداد لشغر أي منصبٍ في إطار نزاعٍ على السلطة والنفوذ، لا تحكمه قواعد ولا معايير ولا أصول ثابتة، فليس من المؤكد أن العسكري يدرك معنى كونه عسكرياً، ولا السياسي يعرف غاية عمله في السياسة، ولا يقبل أيضا المفكّر أو رجل الدين حدود صلاحياته ومهامه. كلٌّ يسعى، في إطار الصراع غير المقنن على النفوذ والمواقع والمنافع، أن يثمر رصيده، مهما كان نوعه، من أجل التقرّب من السلطة والمشاركة في ملكية دولةٍ تحولت هي نفسها إلى بضاعة، وشيء، ومصدر موارد، وفقدت فكرتها الأساسية كإطار شرعي وقانوني لتنظيم حياة الناس، وترتيب شؤونهم وخياراتهم العامة. ولذلك، تماهت جميع النخب في بنيةٍ واحدةٍ، تشبه الكائن وحيد الخلية، تختلط داخلها، وفي ذهنها الصلاحيات، وتضيع المسؤوليات، ولا يميز عملها سوى السعي الدائب إلى توسيع دائرة المنافع الشخصية والنفوذ. وهذا هو أيضاً السبب الكامن وراء انقساماتها وتعدّدها الشكلي وعداواتها الدائمة ونزاعاتها، واحتقار بعضها العميق بعضها الآخر.
والملاحظة الثانية أن الجيش لم يكن مؤسسةً مستقلةً بذاتها ولو نسبياً. وبالتالي، ليس هناك مؤسسة عسكرية حية مدركة وظيفتها، وصاحبة مبادرة في ما يتعلق بها. جميع مؤسسات الدولة، بما فيها الجيش، أجسام جامدة، تفتقر لوعي خاص بمهامها وأصول عملها، وإلى نخبٍ مؤمنةٍ بها وبغاياتها، وإلى حيز من الاستقلال داخل الدولة، يطوّر هويتها، وينمّي لديها القدرة على بلورة أجندتها الخاصة، لتشارك بإيجابية مع غيرها من مؤسسات الدولة في صياغة القرار العمومي. ولأنها كذلك، فهي تبقى جثةً هامدةً، أو قوالب فارغة من المشروع والرسالة. وبالتالي، عرضة للاستباحة والاحتواء من جميع المبادرين والمغامرين من الجماعات الطموحة للاستيلاء عليها، وتسييرها لصالحها، مهما كانت منابتهم ووظائفهم الأصلية أو الشكلية، وسواء أكانوا مدنيين أو عسكريين. ودور الجيش يختلف باختلاف القوى الداخلية أو الخارجية التي تسطو على مؤسستها، وتضعها في خدمة مشاريع سلطتها السياسية، أو الاقتصادية، أو الأيديولوجية.
الملاحظة الثالثة أنه، مع تدهور وضع الدولة القانونية، وسيطرة النزاعات المتعدّدة بين النخب على النفوذ والسلطة، بدل تمايزها وتقاسمها الصلاحيات والمسؤوليات في إطار الوحدة، لم تعد هناك دولة مؤسسية مستقلة عن النظام، وتتحكّم في سير السلطة، أو تحكم ممارستها حسب أصول وقوانين مرعية، وتضبط حسب الدستور علاقات مؤسساتها ونخبه المتميزة في ما بينها. أصبح النظام هو الدولة الحقيقية التي تخترق الدولة وتوجهها، وتشترط قواعد عملها، وصارت إرادة السيد الأوحد الذي يتحكّم بالنظام هي القانون الذي يحكم الدولة نفسها، وصار الرئيس أو الأمير سيد الوطن، أي صاحبه ومالكه والمتصرّف به. وهذا ما يفسّر سبب تراجع نموذج الدولة في البلاد العربية مع مرور الوقت، بدل أن يتطوّر نحو دولةٍ مكتملة الوظائف والأوصاف والمهام، فالدولة لم تعد سوى أداة من أدوات الصراع على السلطة بين أجنحة النخبة المتنافسة، كالحزب والطائفة والقبيلة والأجهزة الأمنية، ومزرعة لشراء الأنصار والمحاسيب، وليست مؤسسةً لتحقيق برنامج بناء أمة وضمان مصالح المجتمعات، وتمكينها من الاندراج في حضارة عصرها، ومشاركتها في صوغ السياسات العالمية. بمعنى آخر، ليست المشكلة في الجيش. ولكن، في الدولة التي لا تملك وسائل الحيلولة دون سقوط ما يمثله الجيش من قوةٍ منظمةٍ عنفيةٍ في يد “عصابةٍ”، أو طغمةٍ تتحكّم بالمجتمع وتخضعه لإرادتها ومصالحها.
والملاحظة الرابعة أنه لا يمكن إصلاح الجيش، وتقنين دوره في المجتمع، من دون إصلاح الدولة، أو بالأحرى إعادة بنائها على أسسٍ قانونيةٍ، تضمن فصل السلطات الدافع إلى إنتاج نخبٍ اجتماعيةٍ متميزة ومتكاملةٍ لا متنازعة. كما لا يمكن تطوير ثقافة التخصص والاحتراف في السياسة والإدارة والحرب والاقتصاد، من دون تطوير نموذج الدولة نفسها، وتحويلها من دولةٍ رافعةٍ لنخبة متميزة إلى دولةٍ لجميع مواطنيها، وفي خدمتهم والارتقاء بشروط حياتهم المادية واللامادية. وهذا هو المقصود من الدعوة الديمقراطية، فالصراع من أجل الديمقراطية هو صراع على تملك الدولة: دولة عامة الناس وعمومهم، أم دولة الخاصة، وأداة تمايزهم وتخصيصهم.
والنتيجة ربما كان ما يميز الأوضاع العربية اليوم، في أغلب أقطارنا، ليس تغوّل الجيش على الدولة أو المجتمع، وإنما تغول أوليغارشية جامعة لكل أصحاب النفوذ والسلطة والمال، والتأييد الخارجي على الدولة والمجتمع والجيش معاً، وجميع المؤسسات الأخرى وتحييدها، لصالح مؤسسةٍ خفيةٍ وغير منظورة، تخترق المؤسسات جميعاً وتستعمرها وتحركّها من الداخل، هي
“ربما كان ما يميز الأوضاع العربية اليوم، في أغلب أقطارنا، ليس تغوّل الجيش على الدولة أو المجتمع، وإنما تغول أوليغارشية جامعة لكل أصحاب النفوذ والسلطة والمال” الدولة الموازية التي لا تختلف عن العصابة الخاصة، والتي يشكّل تعطيل الدستور والقانون وإلغاء السياسة والمجتمع المدني وآليات التضامن الاجتماعي على تعدّدها وتنوعها، شرط وجودها واستمرارها، كما تشكل الأجهزة الأمنية سداها ولحمتها.
أردت من ذلك أن أقول إن الدور الذي احتله الجيش في الحياة السياسية العربية لا يُفهم إلا من خلال علاقة المؤسسة العسكرية بمؤسسات الدولة الأخرى، وعلاقة الدولة نفسها بالنخبة الحاكمة والطبقة التي تستند إليها. فالانحراف الذي شهدته الجيوش العربية، أو أغلبها، عن مهامها الدفاعية لا ينبع من تاريخه الخاص وبنيته، وإنما هو جزء من إشكالية أوسع، هي أزمة علاقات السلطة داخل الدولة العربية نفسها، سواء بسبب نقائص هذه الدولة، وانعدام أفق تحولها إلى دولةٍ مكتملة، تعمل لصالح سكانها لا نخبها، أو بسبب النزاعات التي لا حل لها بين النخب المتنافسة على السيطرة الشاملة، أو في هشاشة مؤسسات الدولة وافتقادها الحياة، وانعدام روح المسؤولية العامة لدى النخب التي تحرّكها. تغوّل الجيش هو التعبير الأمثل عن تهلهل الدولة، وفشلها في أداء مهامها الأساسية، وافتقادها إلى التماسك والنضج السياسي والتنظيمي معاً، لا عن تكوّن نخبة عسكرية حقيقية.
وترجع أزمة علاقات السلطة التي تفضي إلى تضارب الصلاحيات والمسؤوليات، وتحول دون نضوج المؤسسات وامتلاكها هويتها الخاصة واستقلالها الذاتي، وفاعليتها، إلى مشكلةٍ أكبر، تتعلق بانسداد طريق تطور الدولة نفسها، وتحولها من مؤسسةٍ خاصةٍ لخدمة مصالح مالكيها، من نخبة الجيش والأمن والمال والاعلام المتحدة والمحاربة، إلى مؤسسةٍ عمومية، ملك مواطنيها، أي، بمصطلح الأدبيات السياسية الحديثة، إلى دولة أمة. وهذا ما أدى إلى أن تنحط الدولة إلى مستوى أداة استيلاء واحتلال، وحوّل الجيش، بما يمثله من رصيد القوة والعنف، إلى مليشيات خاصة، كما هو واضح اليوم في سورية والعراق، بمقدار ما رد “الشعوب” المجرّدة من السلاح إلى حال الأقنان التابعين والعبيد. وما نشهده، في هذه الحقبة، هو بالأحرى زوال دور الجيش، وصعود نجم المليشيات الأهلية، بموازاة تفكّك الدولة وموت السياسة.
أما تحليل أسباب هذا الانسداد فهو موضوع نقاش آخر.
* نقلاً عن: “العربي الجديد”
عذراً التعليقات مغلقة