من الرعوية إلى المواطنة الحضارية

فريق التحرير8 سبتمبر 2025آخر تحديث :
ياسر الظاهر

هناك كتب تُشبه اللحظات التاريخية الفاصلة: تأتي لتضعنا أمام أسئلةٍ لا مفرّ منها. من بين هذه الكتب، يبرز كتاب «مفهوم المواطنة… أو صورة السيتيزنية في المستقر الإيماني» فهو ليس مجرد كتاب في النظرية السياسية أو الفلسفة الاجتماعية، بل نصّ يقف على حافة الواقع المأزوم، ويحاول أن يقرأه ويعالجه معًا. في عام 2021 صدَر هذا الكتاب ل (مضر الدبس)، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، والذي يُعدّ محصلة جهد فكري، حيث يتناول فيه مفهوم المواطنة من منظور حداثي وعالمي، ومُلحّ في عرضه للقُضية عبر إطارين أساسيين: الغربي (البوليتيا والسيفيتاس)، والعربي–الإسلامي (الممادرة والمناهجة والرعويّة).

في زمن تتفكك فيه الدول الوطنية العربية تحت ضغط الانقسامات الطائفية والقبلية، ويتهددها الاستبداد من الداخل والتدخل من الخارج، يبدو طرح سؤال المواطنة ضرورة وجودية، لا ترفًا فكريًا. وهنا تأتي مساهمة الدبس: محاولة لإعادة تعريف المواطنة في مجتمعات لم تعرفها حقًا، أو عرفت منها قشورًا لم تصمد أمام أول اختبار.

الرعوية: من التاريخ إلى الحاضر

يذهب الدبس إلى أن الرعوية ليست مجرد نظام اجتماعي بدائي ارتبط بمرحلة ما قبل الدولة، بل هي منظومة ذهنية ونفسية ما زالت تهيمن على مجتمعاتنا. يقول: «إنّ الرعوية ليست فقط نمطًا اجتماعيًا تقليديًا، بل هي مرضٌ يفتك بالمجتمع حين يُحاصر العقل المدني ويُكبّل إمكاناته».

هذا التشخيص ينطبق تمامًا على التجربة السورية في العقود الأخيرة. فالمواطن ظلّ «رعية» في ظل دولة الحزب الواحد، يُطلب منه الولاء قبل الكفاءة، والسمع والطاعة قبل المشاركة. وعندما انفجرت البلاد عام 2011، كان من الطبيعي أن تعود الولاءات القديمة لتتصدر المشهد: الطائفة، العشيرة، الجهة، وحتى الميليشيا. كل ذلك كشف أن «المواطنة» لم تكن قد ترسخت أصلًا، بل كانت قشرة هشة سرعان ما تساقطت تحت ضربات الحرب.

ولا يختلف الأمر في بلدان عربية أخرى. ففي لبنان، تستمر الرعوية بأشكال وأثواب طائفية، تجعل المواطن تابعًا لزعيم طائفي يمنحه الحقوق أو يمنعها عنه. وفي العراق، حيث تتوزع الولاءات بين عشائر ومرجعيات وأحزاب مسلّحة، تغيب المواطنة لمصلحة محاصصة لا تعترف بالفرد إلا من خلال طائفته أو قوميته. هكذا، يتضح أن ما يسميه الدبس «مرض الرعوية» ليس توصيفًا أكاديميًا فحسب، بل قراءة واقعية لمآسي المنطقة تقدم رؤى عديدة لمعالجتها.

السيتيزنية: نحو أفق حضاري جديد

في مقابل الرعوية، يطرح الدبس مفهوم السيتيزنية، أي المواطنة الحديثة. وهي ليست مجرد انتماء إلى دولة أو حمل بطاقة هوية، بل وعي مدني يقوم على الشراكة والمساواة والمسؤولية. في هذا السياق، يربط الكاتب بين المواطنة والديمقراطية والمجتمع المدني والأخلاق، مؤكدًا أن المواطنة ليست حقًا فقط، بل التزام ومسؤولية تجاه الآخرين.

يقول «لا يمكن للمواطنة أن تتحقق دون رأسمال اجتماعي وطني، يقوم على الثقة والتضامن والتربية المدنية».

هذه الفكرة تعني أن الدولة الحديثة لا تُبنى بالأنظمة والقوانين وحدها، بل تحتاج إلى ثقافة اجتماعية تُمكّن الناس من الثقة ببعضهم وبالمؤسسات.

لكن إذا نظرنا إلى سوريا مثلًا، نجد أن هذا «الرأسمال الاجتماعي» قد تآكل. الحرب مزّقت الثقة بين المكوّنات، وحولت الجار إلى خصم محتمل. التعليم والإعلام لم يلعبا دورًا في بناء ثقافة مدنية، بل على العكس غذّيا الانقسام والتبعية. وهكذا، بقيت المواطنة شعارًا دون مضمون، في حين يظل المجتمع المدني ضعيفًا وهشًا.

المواطنة كخطاب علاجي

الجانب الأكثر إثارة في الكتاب هو اعتبر الدبس المواطنة علاجًا لمرض الرعوية.  إذ نراه في الفصل الثالث، يقول: «الانتقال من الرعوية إلى السيتيزنية يتطلب خطابًا علاجيًا، يصف المرض ويقترح خطوات واقعية للتعافي».

هذه المقاربة تجعل من الكاتب أقرب إلى الطبيب الذي يشخّص العلة ويصف الدواء. ومن اللافت أنه لا يكتفي بالتحليل النظري، بل يطرح خطوات عملية: إصلاح التعليم، تعزيز الثقة الاجتماعية، إعادة الاعتبار للأخلاق المدنية، وتأسيس حياة سياسية تقوم على الشفافية والمساءلة.

إذا أسقطنا هذا الرؤية على الواقع السوري، نجد أن بعض بذور العلاج موجودة في مبادرات المجتمع المدني، سواء في الداخل أو في الشتات. فالمجموعات الشبابية، المبادرات الثقافية، والروابط المهنية التي تعمل بعيدًا عن الاصطفافات، كلها محاولات لبناء فضاء بديل قائم على الشراكة. صحيح أنها محدودة وضعيفة، لكنها تشي بإمكانية خلق «مواطنة» جديدة تبدأ من الأسفل، من تفاصيل الحياة اليومية.

كتاب صرخة في الزمن الصحيح

ما يميّز كتاب مضر الدبس أنه ليس تنظيرًا مجردًا، بل نصّ يشتبك مع اللحظة الراهنة. فهو حين يكتب أن الرعوية «تصادر العقل المدني وتحيل المواطن إلى تابع»، فإنه يصف مشهدًا نعيشه يوميًا:

في سوريا، حيث تتحكم الأجهزة الأمنية والحزب الواحد في مصائر الناس.

في لبنان، حيث يُختصر المواطن في «أتباع» زعيم طائفي.

في العراق، حيث توزّع الميليشيات الولاءات وتتحكم في موارد الدولة.

وحتى في بلدان عربية أخرى، حيث يغيب صوت الفرد أمام جدار الجماعة أو القبيلة.

بهذا المعنى، يصبح الكتاب ليس مجرد مساهمة فكرية، بل صرخة ثقافية في وجه واقع يهدد بفقدان معنى «المواطن» لصالح الشعب «الرعية».

نحو نقاش عربي جديد

تكمن قيمة «مفهوم المواطنة» في أنه يفتح بابًا لنقاش عربي طال انتظاره: كيف نبني دولًا حديثة في مجتمعات ما زالت أسيرة الانتماءات ما قبل الوطنية؟ هل يمكن أن نصنع «سيتيزنية» عربية قادرة على مواجهة الاستبداد والانقسام معًا؟

هذه الأسئلة لا تخص سوريا وحدها، بل تمتد إلى المنطقة كلها. فالدولة الوطنية العربية، التي تأسست في القرن العشرين، فشلت في كثير من الأحيان في إنتاج مواطن حر ومسؤول. الاستبداد من جهة، والانقسامات الطائفية والقبلية من جهة أخرى، عطّلت نموّ المواطنة. وهنا يأتي كتاب الدبس ليعيد طرح السؤال من جديد، لكن بلغة تشخيصية–علاجية تجعل النقاش أكثر واقعية وبعيدا عن الشعاراتية

أو الحزبية.

خاتمة

«مفهوم المواطنة» ليس كتابًا عابرًا في مكتبة الفكر العربي، بل محاولة جادة لتقديم وصفة حضارية للخروج من المأزق. إنه يضعنا أمام معادلة بسيطة وعميقة: إمّا أن نبقى أسرى الرعوية وما تعنيه من تبعية وتجزئة، أو نجرؤ على الانتقال إلى السيتيزنية بما تحمله من وعي مدني ومسؤولية مشتركة،

ربما تبدو هذه الرؤية مثالية أمام واقع عربي مأزوم، لكن قيمتها أنها تذكّرنا بأن المستقبل لا يُبنى من دون مواطنين أحرار. والسؤال الذي يتركه الكتاب في ذهن القارئ، هو ذاته السؤال الذي ينبغي أن يحرّك حياتنا السياسية والاجتماعية:

هل نملك الشجاعة لنكون مواطنين، لا رعايا؟ وهل حان الوقت لتلتفت وزارة التعليم في سوريا والدول العربية لأن يكون هذا الكتاب من ضمن منا هج كليات العلوم السياسية وأقسام الدراسات الاجتماعية والفلسفية في كليات الآداب والعلوم الإنسانية.

اترك رد

عاجل