

انتهى عهد الأسد، أو هذا ما يبدو في الأفق. نظامٌ حكم سوريا بالنار والحديد لأكثر من نصف قرن سقط أخيرًا، تاركًا خلفه وطنًا منكوبًا واقتصادًا متهالكًا ومجتمعًا جريحًا.
ومع الإعلان عن تعليق العقوبات الأمريكية والدولية المفروضة على سوريا، تلوح في الأفق نوافذ أمل، لا فقط لإعادة الإعمار الهندسي، بل لبناء منظومة اقتصادية – اجتماعية جديدة تستحقها سوريا وشعبها المنهك.
لكنَّ السقوط لا يعني بالضرورة النهوض. فالسوريون اليوم لا ينتظرون “بديلًا” سياسيًا فحسب، بل ينتظرون نموذجًا مختلفًا في الحكم والإدارة؛ نموذج يضع الإنسان قبل الاستثمار، والعدالة قبل الصفقات، والوطن قبل الولاءات الضيقة.
من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد الناس
يصعب الحديث عن الاقتصاد السوري دون الغرق في الأرقام المفزعة: أكثر من 80% من السكان تحت خط الفقر، انهيار شبه كامل للعملة، خدمات صحية وتعليمية منهارة، أمن غذائي مفقود، وملايين من اللاجئين والنازحين الذين يعيشون في خيام البرد واليأس، بانتظار وعد بالعودة إلى منازل تحولت إلى ركام.
تعليق العقوبات لا يعني تلقائيًا تدفق الأموال أو استقرار الأسواق.
إنه فرصة مشروطة بقدرة الداخل السوري على إعادة تشكيل بنيته المؤسساتية.
فإعادة الإعمار ليست إسمنتًا وحديدًا، بل عقلًا اقتصاديًا جديدًا، يُدار بروح الدولة لا بروح الفصائل.
اقتصاد يُبنى على الثقة، لا على المحسوبيات.
التوزيع العادل للثروة: من سوريا إلى جميع محافظاتها
أحد أخطر أمراض الاقتصاد السوري قبل وبعد الثورة هو المركزية القاتلة التي حوّلت محافظة واحدة إلى جزيرة ثراء، فيما تُركت المحافظات الأخرى فريسة للفقر والإهمال. إذا لم تُكسر هذه المعادلة، فسنُعيد بناء السجن ذاته بأبواب جديدة.
لا بد أن تصل التنمية إلى دير الزور كما تصل إلى اللاذقية، وإلى إدلب كما تصل إلى حمص، وإلى الحسكة كما تصل إلى الرقة.
يجب أن تكون الأولوية لإعادة تأهيل المدارس والمستشفيات والبنى التحتية، لا لبناء المجمعات الفاخرة وقصور النخب الجديدة.
العدالة أولًا: لا اقتصاد بلا تطهير مؤسسات الدولة والثورة
الحرب لم تُدمر البنى فقط، بل دمّرت القيم. الفساد، سرقة المساعدات، استغلال المخيمات، كلها أورام سرطانية لا يُمكن القفز فوقها. لا معنى لأي خطة تعافٍ اقتصادي دون عملية تطهير شاملة للمؤسسات، وإعادة تأسيس ثقافة المساءلة. لا نهضة بلا عدالة، ولا استثمار بلا شفافية، ولا اقتصاد بلا ثقة.
الاستثمار في الشعب: مفتاح نهضة سوريا
الرافعة الوحيدة القادرة على حمل سوريا الجديدة ليست المال، بل الشعب. الذي يحتاج إلى استثمار فيه عبر التعليم، التدريب، المشاريع الصغيرة، تمكين المرأة، وإعادة دمج الشباب الذين حُرموا من المستقبل لعقد كامل.
أما السوريون في الخارج، فهم كنزٌ منسي. يمتلكون الخبرة، والمال، والروابط الدولية أثناء هجرتهم خارج سوريا، لكنهم يفتقرون إلى أهم شرط: الثقة. الثقة في دولة تحترمهم، لا تبتزهم. تحمي أموالهم، لا تصادرها. وهنا يكمن التحدي الأكبر.
الثورة الأخلاقية قبل الاقتصادية
الخطر الأكبر في “سوريا ما بعد الأسد” ليس فقط في استمرار آثار النظام، بل في إعادة إنتاجه بأسماء جديدة. هناك قوى بدأت تتصرف اليوم بعقلية نظام الأسد “التشبيح”، تُقصي المختلف، وتقايض الولاء بالمناصب. هذا المسار لا يبني دولة، بل يعيد إنتاج الكارثة ذاتها بأسماء ووجوه جديدة، وبذالك يعود الشعب السوري ليتلقى نفس الأذى.
لذلك، أي بناء اقتصادي ناجح في سوريا يجب أن يكون مشروعًا أخلاقيًا أولًا. لا اقتصاد بلا كرامة، ولا تنمية بلا مساواة، ولا استثمار بلا حرية.
العقوبات رُفعت، والمجتمع الدولي يراقب عن كثب. لكن الدول لا تُبنى بقرارات الخارج، بل بإرادة أبنائها. سوريا اليوم تقف عند مفترقطُرق حاسم: إما أن تُبنى من جديد، أو تُنهب من جديد.
والسوريون رغم الإنهاك ما زالوا يستحقون وطنًا.
وطنًا لا يُقاس بحجم برامجه الاقتصادية، بل بحجم عدالته، ومكانة مواطنيه، وكرامتهم التي لن تُختزل بعد اليوم في ربطة خبز أو أسطوانة غاز أو كيلو بصل.