

في مشهد يعكس تحوّلًا جذريًا في الخطاب والمواقف، يبرز التناقض الصارخ في سلوك أحمد الشرع، المعروف سابقًا بأبي محمد الجولاني، قائد “هيئة تحرير الشام” والرئيس الانتقالي الحالي لسوريا. فبعد سنوات من تخوين فصائل “الجيش الحر” واتهامها بـ”العمالة للغرب”، نجد الرجل ذاته اليوم يمدّ يده للعواصم الغربية، ساعيًا إلى تطبيع العلاقات معها وإزالة التصنيفات الإرهابية عن فصيله، في تحرك يثير تساؤلات جدية حول مصداقية نهجه السياسي ومآلات مشروعه في سوريا.
من التخوين إلى التفاوض المباشر
في بدايات الثورة السورية، ظهر الجولاني كزعيم لجبهة النصرة، فرع تنظيم القاعدة في سوريا، مدفوعًا بأوامر من “أبو بكر البغدادي” لتأسيس فصيل جهادي يشارك في إسقاط النظام السوري. شاركت الجبهة في معارك شرسة إلى جانب فصائل المعارضة، قبل أن تبدأ سريعًا بمسار تصادمي مع تلك الفصائل نفسها، مبرّرة ذلك باتهامات “الانحراف عن الشريعة” أو “العمالة للغرب”.
لكن في عام 2016، أعلن الجولاني فك ارتباطه بتنظيم القاعدة، مغيرًا اسم الجبهة إلى “جبهة فتح الشام”، ثم لاحقًا إلى “هيئة تحرير الشام”. هذا لم يمنعه من الاستمرار في سياسة الإقصاء والقمع ضد فصائل “الجيش الحر”، حيث شنت الهيئة حملات اعتقال وقتال ضدهم، وأطلقت عليهم أوصاف “المرتدين” و”العملاء”، ما أدى إلى انقسام خطير في صفوف المعارضة المسلحة، وتآكل ثقة الحاضنة الشعبية بها.
تحول في الخطاب السياسي
في السنوات الأخيرة، لا سيما بعد تنصيب نفسه رئيسًا لسوريا في المرحلة الانتقالية، بدأ أحمد الشرع بتغيير خطابه بشكل جذري. فقد دعا الغرب إلى إعادة النظر في تصنيف “هيئة تحرير الشام”، وزعم أنها “تسعى لتحقيق الأمن والاستقرار”، بل وذهب إلى حد القول إن “سوريا ليست أفغانستان”، محاولًا تقديم نفسه كزعيم معتدل.
وفي خطوة غير مسبوقة، التقى الشرع نهاية 2024 بوفد أمريكي في دمشق لمناقشة رفع العقوبات وشطب الهيئة من قوائم الإرهاب. كما التقى في مايو 2025 بالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في الرياض، في أول لقاء معلن بين رئيس أمريكي ورئيس سوري منذ عقود، ما يُعدّ تحولًا دراماتيكيًا في العلاقات بين واشنطن ودمشق.
المعتقلون والضحايا… في الهامش
لكن وسط هذه التحولات السياسية، تُطرح أسئلة مُلحّة حول مصير أولئك الذين دفعوا ثمن اتهامات “العمالة للغرب”. أين المعتقلون من فصائل “الجيش الحر”؟ هل لا يزالون أحياء؟ وهل من تعويض لعائلات القتلى الذين سقطوا تحت هذه التهم؟ كيف يمكن تبرير هذا التحول السياسي الكبير في ظل غياب أي مساءلة أو مراجعة؟
ازدواجية قاتلة
ما نشهده اليوم هو تجسيد واضح لازدواجية المعايير: تهم جاهزة لتصفية الخصوم حينًا، وتحالفات مع نفس الجهات حين تقتضي المصلحة. فهل كان الهجوم على “الجيش الحر” ضرورة مبدئية؟ أم مجرد وسيلة لبسط النفوذ؟ وإذا تغيرت المصالح غدًا، هل ستُستخدم تهم جديدة لتصفية خصوم جدد؟ هل سنرى تكرارًا لنفس النهج في إدارة الدولة كما حصل في إدلب؟
هل من عدالة ممكنة؟
إن مستقبل سوريا لا يتحدد فقط من خلال اللقاءات الدبلوماسية أو رفع العقوبات، بل من خلال تحقيق العدالة والمساءلة. على الحكومة الانتقالية بقيادة الشرع أن تجيب بوضوح: هل ستتم محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات؟ هل ستُعاد الحقوق لأصحابها؟ وهل ستتوقف حملات التخوين والتصفية تحت ذرائع أمنية أو أيديولوجية؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة، بقدر ما تتطلب عقلانية، فهي كذلك اختبار حقيقي لمستقبل سوريا، إن كانت ستُبنى على أسس العدالة والشفافية، أو تظل حبيسة دوائر التبرير والنفاق السياسي.