تهجير الفلسطينيين: حل أم كارثة؟

قراءة في اجتماع ترامب وعبد الله الثاني وانعكاسات المشروع على المنطقة

لجين مليحان13 فبراير 2025آخر تحديث :
تهجير الفلسطينيين: حل أم كارثة؟

في غرفة مغلقة اجتمع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالملك الأردني عبد الله الثاني، ولم تكن مجرد جلسة دبلوماسية روتينية، بل كانت محاولة لاختبار نبض “الحل الأكثر إثارة للجدل” في الشرق الأوسط، ليسلط الضوء على أحد أكثر الملفات إثارة للجدل: “تهجير الفلسطينيين”. هذا الاجتماع النادر، الذي نُوقشت تفاصيله خلف الأبواب المغلقة، يكشف عن رؤية أمريكية تُعالج الصراع التاريخي كـ”مشكلة ديموغرافية” يمكن حلها بنقل السكان، متناسيةً أن الأرض ليست أرقامًا على خريطة، وأن الشعوب لا تُحذف بجرة قلم. هذا الاجتماع ناقش خياراتٍ قد تُعيد تشكيل خريطة الصراع العربي-الإسرائيلي، يطرح أسئلةً مصيرية: هل يُمكن اختزال قضية شعبٍ في نقل سكاني؟ أم أن هذه الخطوة ستُفاقم الأزمات الإنسانية والسياسية في منطقةٍ تعاني أصلاً من وهن الاستقرار؟  

منطق ترامب: بين الإرث السياسي والمكاسب الآنية

لا يُخفي ترامب سعيه لتحقيق إرثٍ سياسي يُخلِّده كـ”صانع سلام”، عبر فرض حلولٍ سريعة لقضايا معقدة. فخطة “صفقة القرن”، التي تبناها سابقاً، لم تكن سوى جزءٍ من رؤيته القائمة على إعادة هندسة الواقع الجغرافي والديموغرافي. لكن ما يلفت النظر هنا هو تجاهل الإدارة الأمريكية السابقة والحالية للبُعد الأخلاقي: فاقتراح تهجير الفلسطينيين إلى الأردن أو مصر ليس حلاً، بل هو هروبٌ من جوهر الصراع الذي يتمحور حول حقوقٍ وطنية وتاريخية. ومع ذلك، فإن تحليل هذه الخطة يكشف عن العديد من الجوانب المثيرة للجدل. فلقد واجهت الاقتراح ( proposal ) بالرفض من قبل العديد من الأطراف، ليس فقط من الفلسطينيين، بل أيضاً من دول ومؤسسات دولية.

الواضح هنا أن ترامب كان يركز على تحقيق مكاسب آنية تعزز من قبضته السياسية في الداخل الأمريكي، دون النظر إلى تبعات هذه السياسات على الأمد البعيد. فاقتراح تهجير الفلسطينيين إلى الأردن أو مصر، وهو مقترح وُصف من قبل الكثيرين بأنه غير إنساني وغير واقعي، لا يُعتبر حلاً مستداماً. بل هو هروبٌ من جوهر الصراع الذي يتمحور حول حقوقٍ وطنية وتاريخية تعود جذورها لعقود طويلة.

تأتي تلك الجوانب الأكثر تعقيدًا لهذا الصراع في إطار أوسع من الديناميات الجيوسياسية. يُظهر تاريخ النزاعات الإقليمية أن الحلول السطحية التي تتجاهل الأبعاد الإنسانية والسياسية غالبًا ما تُؤدي إلى تفاقم الأزمات. إذ يرفض الفلسطينيون الفكرة القائلة بأن تهجيرهم يمكن أن يُعتبر حلاً مقبولاً، ويعتبرون أي توجه يمس حقوقهم الأساسية بمثابة تجاوز للمواثيق الدولية. 

في هذا السياق، يُمكن القول إن إدارة ترامب لم تأخذ في اعتبارها الآثار النفسية والاجتماعية لهذه الحلول، وتأثيرها على الأجيال القادمة من كلا الطرفين. فهذه النزاعات ليست مجرد ملفات سياسية تُحل بوساطة قوائم المفاوضات، بل هي قضايا متجذرة في هوية الشعوب ومعاناتها. 

لذا، فإن إعادة النظر في منطق ترامب قد يكون مفتاحًا لفهم كيفية الوصول إلى حلول حقيقية تضمن العدالة والسلام للجميع. إن الإرث الذي يتمنى ترامب تركه هو بالتأكيد بعيدٌ كل البعد عن الصورة التي رسمها من خلال سياساته، وهو ما يترتب عليه الحاجة إلى مراجعة شاملة للرؤى والسياسات المتبعة للوصول إلى سلامٍ فعّال ومستدام في المنطقة.

المخاطر: عندما يُصبح التهجير أداةً للدمار الشامل

لا تقتصر تبعات التهجير على كونه انتهاكاً لحقوق الفلسطينيين، بل تمتد لتشكل تهديداً حقيقياً للمنطقة بكاملها. إن ما يُعتبر حلاً سريعاً لقضية معقدة قد يتطور إلى أزمة شاملة. فيما يلي بعض النقاط المهمة التي تلخص المخاطر المرتبطة بالتهجير:

1. شرعنة التطهير العرقي: إن تنفيذ سياسة التهجير سيكون سابقةً خطيرة تفتح الباب أمام إسرائيل لتوسيع الاستيطان تحت غطاء “حقائق ديموغرافية جديدة”. ستستفيد إسرائيل من وجود قوى دولية تتجاهل الانتهاكات الحقوقية المرتبطة بذلك، مما يُعتبر بمثابة تعزيز للسياسات القمعية التي تتبعها. هذا الإجراء لن يؤدي فقط إلى فقدان الفلسطينيين لمنازلهم وأراضيهم، بل إنه سيُرسّخ فكرة أن القوة العسكرية يمكن أن تحل قضايا النزاع، مُهدِّدة بذلك استقرار المنطقة على المدى الطويل.

2. تفجير الأوطان المضيفة: الدول التي تستقبل النازحين، مثل الأردن، ستواجه تحديات جمة قد تؤدي إلى انهيار بنيتها الاجتماعية. سيؤدي تدفق من اللاجئين إلى ارتفاع معدلات الفقر، والبطالة، وتفشي الأزمات الصحية والاجتماعية. كما ستعاني هذه الدول من ضغط إضافي على الموارد الأساسية، مما يثير توترات داخل المجتمع بين اللاجئين والسكان الأصليين. تفاقم هذه الأوضاع قد يُفضي إلى تصاعد الخطاب المتطرف، وتشكيل بيئة غير مستقرة تهدد السلم الأهلي.

3. إماتة عملية السلام: إن أي حلٍّ يُفرغ القضية الفلسطينية من مضمونها التاريخي يُعتبر طعنة في آفاق التسوية. يصبح الصراع مُجرّداً من بعده الإنساني والسياسي في ظل هكذا سياسات، ليُحوَّل إلى مواجهاتٍ عابرة للحدود، مما يزيد من تعقيد المسألة ويُمسّ بحقوق الشعوب. إن إغفال الحقوق الوطنية القائمة على التاريخ لن يؤدي إلا إلى إعادة تفجير الصراعات وتعقيد الحلول المرتقبة.

إسرائيل والتهجير: مكاسب وهمية وأثمان باهظة

رغم أن بعض الأصوات الإسرائيلية ترى في التهجير فرصةً لـ”تعزيز الهوية اليهودية”، إلا أن هذه الرؤية قصيرة النظر وتتجاهل عواقب أعمق بكثير. تهجير الفلسطينيين لن يُعزز أي هوية، بل سيربط إسرائيل بأحد أعنف فصول التطهير العرقي في العصر الحديث، مما سيؤدي إلى إحياء مقاومة فلسطينية قد تتخذ أشكالا أكثر عنفاً وشراسة.

إن تحويل القضية من صراع سياسي إلى أزمة لاجئين يتطلب استجابة دولية من نوعٍ جديد، فعلى الرغم من المزايا الوهمية التي قد تراها بعض الأطراف في التهجير، فإن عواقب هذا الإجراء ستكون باهظة الثمن. ستعزز الانتفاضات والمقاومات في فلسطين، مما يستدعي التدخلات الدولية ويُمعن في عزل إسرائيل عن المجتمع الدولي. 

إضافةً إلى ذلك، سيكون لتلك السياسات تأثيرات عميقة على صورة إسرائيل في العالم. إن التعامل مع الفلسطينيين كلاجئين بدلًا من شركاء في عملية السلام يُعزز حملات المقاطعة الدولية ضد إسرائيل، مما يحدث مزيدًا من العزلة لها ويؤدي إلى تفاقم التوترات الإقليمية. ستؤدي هذه الاستراتيجيات إلى زعزعة استقرار طويل الأمد في المنطقة، وستُقضي على الآمال في عملية سلام حقيقية قائمة على العدل والمساواة، مما يجعل الأمر أكثر إلحاحاً لبناء تسويات تلبي احتياجات جميع الأطراف المعنية.

الأردن.. حارس الهوية الفلسطينية:

رفض الملك عبد الله الثاني ليس دفاعًا عن سيادة بلده فحسب، بل هو “حرب وجود” ضد مشروع يهدد بتفجير الأردن من الداخل. فالدولة التي تستضيف أكبر نسبة لاجئين فلسطينيين في العالم تدرك أن قبول التهجير سيحوّلها إلى “دولة ثكنات” تعيش على صفيح ساخن من الغضب الشعبي والانهيار الاقتصادي.

حماس والسيناريوهات السوداء: مقاومة أم انهيار؟

في حال تنفيذ التهجير، ستكون حركة حماس أمام مفترق طرق خطير يعكس التحديات المعقدة التي تواجهها. يمكن أن تتجه الحركة نحو تحويل نفسها إلى رمزٍ للمقاومة الشعبية، ساعيةً إلى تعبئة الفلسطينيين وتحفيزهم على مواجهة ما يُسمى بـ “مشروع الإبادة”. وفي هذه الحالة، قد تجد حماس فرصة لإعادة تجديد شرعيتها وتعزيز موقفها كحركة مقاومة تتصدر الجهود الرامية للدفاع عن الهوية الفلسطينية وحقوق الشعب. 

لكن تكمن الصعوبة في أن عدم قدرتها على التصدي بفاعلية للخطة المعادية قد يؤدي إلى فقدان هذه الشرعية، وبالتالي تحولها إلى حركة تفتقد التأييد الشعبي، مما قد يضيِّق عليها الخيارات ويزيد من ضغوطها الداخلية. الخطر الحقيقي يتمثل في أن الصراع قد يتحول إلى حرب وجودية، حيث تصبح جميع الأطراف خاسرين، مما يؤدي إلى تدهور الوضع الإنساني، وزيادة معاناة الشعب الفلسطيني، وإفساح المجال لتصاعد أعمال العنف وزيادة الانقسام.

مأزق حماس: من المقاومة إلى التهميش:  

إن نجاح عملية التهجير قد يدفع بحركة حماس إلى مأزق معقد للغاية، حيث قد تفقد دورها كنتيجة لذلك كـ”حامية للقضية الفلسطينية”. ليس الأمر ناجمًا بالضرورة عن ضعف الحركة، بل إن المشروع الاستيطاني قد ينتزع منها الأرض التي تعتبر ركيزة الصراع حول حق العودة والوجود الفلسطيني. تصبح المعارك مع مرور الوقت أكثر قسوة وتحولاً، حيث تُعطى الأولوية لمواجهات وجودية، بدلاً من الكفاح من أجل الحقوق التاريخية. إن هذا التغير في شكل الصراع قد يؤدي إلى آثار جانبية عميقة على الهوية الوطنية الفلسطينية، مما يضع حماس وكافة القوى الفلسطينية أمام تحديات جديدة تتطلب استراتيجيات غير تقليدية وتجديد الأفكار لمواجهتها بشكل فعال. 

إجمالًا، يمكن القول إن الحركة في هذه المرحلة الدقيقة تحتاج إلى حوار داخلي وخارجي مع جميع الفصائل الفلسطينية، لإيجاد إطار عمل موحد يستطيع التصدي للاختبارات الحالية وينبغي أن يتجه نحو المقاومة المستدامة التي تضمن حقوق الشعب الفلسطيني، بدلاً من الانزلاق في صراعات جانبية أو فوضى لا تنتهي.

سيناريوهات المستقبل

  • السيناريو الأسود:  

إذا تمت عملية التهجير، قد نشهد اندلاع حروب أهلية في الدول المُضيفة، مثل الأردن، حيث تزداد التوترات بين اللاجئين الجدد والمجتمعات المضيفة. هذا الأمر قد ينجم عن تنامي الخطاب الشعبوي المعادي للفلسطينيين في تلك الدول، ما يؤدي إلى استنساخ صراعات سابقة حول الهوية والحقوق. يُمكن أن يتصاعد هذا النزاع نتيجة شعور اللاجئين الفلسطينيين بالاغتراب والتمييز، في مواجهة المجتمعات التي قد تشعر أيضًا بالتهديد من تدفق اللاجئين. هذه الديناميات ستزيد من تعقيد الأوضاع السياسية والاجتماعية في المنطقة، مما يُظهر الحاجة الملحّة إلى سياسات مدروسة من كلا الجانبين للتخفيف من حدة الاحتقان وضمان تكامل اللاجئين في المجتمعات المضيفة.

  • السيناريو المنسي: صعود جيل جديد من المقاومة  

قد يسفر التهجير عن ولادة جيل فلسطيني جديد شهيدًا أكثر تشددًا وعزيمة، يرفع شعار “الأرض تُسترد ولا تُهجر” كصرخة للتمسك بالحقوق وتعزيز الهوية الوطنية. هذا الجيل قد يتبنى أدوات مقاومة غير تقليدية، مثل الحرب الإلكترونية والتكنولوجيا الحديثة، لصياغة أشكال جديدة من الكفاح. من الممكن أيضًا أن يسعى هذا الجيل لتشكيل تحالفات إقليمية مضادة تعمل على تعزيز موقفهم في الساحة العالمية. عبر الاستخدام الفعّال للمنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، قد يتمكنون من خلق زخم عالمي يتجاوز الأطر التقليدية، معتمدين على دعم المجتمع الدولي لتسليط الضوء على معاناتهم. 

إن هذه السيناريوهات، رغم قسوتها، تعكس واقع الصراع الفلسطيني وتحدياته المستمرة، مما يستلزم التفكير الإبداعي والاستراتيجي لمعالجة القضايا الإنسانية والسياسية الحرجة التي تواجه الفلسطينيين، سواء في الأرض المحتلة أو في الشتات.

الخاتمة: نحو حلٍّ لا يخون التاريخ

اجتماع ترامب وعبد الله الثاني كشف الستار عن مقاربتين متضادتين: واحدةٌ تتعامل مع القضية الفلسطينية كـ”مشكلة ديموغرافية” قابلة للحذف من الخريطة، وأخرى تُصر على أنها قضيةُ شعبٍ له حقوقٌ غير قابلة للتصرف. الحل الوحيد الذي يُجنب المنطقة كارثة التهجير هو العودة إلى الطاولة الدولية، ليس فقط للتفاوض على حدودٍ، بل للاعتراف بالظلم التاريخي الذي مُني به الفلسطينيون. فالشعوب لا تُهجَّر، والأوطان لا تُمسح بجرة، فالتهجير ليس “حلًا” بل هو هروبٌ من مواجهة التاريخ. فالشعب الفلسطيني، الذي صمدَ أمام محاولات الإبادة والتشريد منذ 75 عامًا، لن يقبل أن يُختزل مستقبله في حقائب تُحمل على ظهر شاحنات. السؤال الحقيقي ليس “هل يمكن ترحيل الفلسطينيين؟”، بل “هل تريد إسرائيل أن تعيش إلى الأبد كدولة فصل عنصري تُدينها الأمم المتحدة؟”. 

اترك رد

عاجل