كان الفصل الأخير من قصة سقوط نظام الأسد سريعاً، وبقدر من الدماء يكاد لا يذكر في المقياس الرهيب الذي شهدته سورية في عقدها الأخير، إلى الحد الذي يسمح بالقول إن نهاية القصة كانت، كما البداية، سلمية. وكان التحوّل خاطفاً إلى الحد الذي بدا أن التعبير الأنسب هو تلاشي النظام وليس سقوطه، فالظاهر أنه تلاشى من دون أن يبقى منه شيء، اختفت حتى الأصوات التي لم تكفّ حتى الأمس القريب عن تمجيده والدفاع عنه. وأهم ما في الأمر أننا تجاوزنا، على عكس التوقعات، ما كنا نسميها “صدمة الساحل”، أي أن يشهد الساحل صراعاً دموياً قبل أن تحسم السيطرة فيه، أو أن يشهد الساحل مجازر انتقامية بعد حسم السيطرة. كان انتقال السيطرة سلمياً، وهذا لا يحقن الدماء فقط، بل أيضاً يسهل البدء ببناء جديد. وقد كان استسلام دمشق وفرار رأس النظام، عاملاً مؤثراً في استكانة الساحل الذي رضي شعبياً بالأمر الواقع الجديد، وبصورة تامة، حتى قبل وصول القوات المنتصرة إليه، إضافة إلى تأثير العامل الأهم، وهو ما أظهرته هذه القوات من تعامل جيد غلبت عليه الوطنية، مع الأهالي من كل الأطياف.
لا يعود تجاوز صدمة الساحل فقط إلى العوامل السابقة، بل ساهم فيه أيضاً غياب أي ردة فعل من أهالي الساحل، على ممارسات غير منضبطة وصلت في بعض الحالات إلى القتل من قبل أفراد محسوبين على السلطة الجديدة.
لا يحسُن فهم غياب ردة فعل من أهالي الساحل دلالة ضعف، حتى وإن كان يتوفر على كل عناصر الضعف، بل ينبغي فهمه على أنه خيبة كاملة من نمط سياسي فاسد نجح في إيهام عموم العلويين بالسيطرة وقادهم، مع كامل المجتمع السوري، إلى كل هذا الخراب. انعدام أي مقاومة في وجه القوات التي طالما تصوّرها أهل الساحل “العدو”، يعني أن وهمهم رقّ كثيراً مع مرور سنوات الجحيم السابقة وتبخّر، وباتت المساواة تطلعاً بالنسبة لهم، بعد أن أكملت صلابة الواقع دورها في ردّهم عن وهم السيطرة الفئوية القاتل. بعد الآن، ينبغي أن يكون التطلع إلى السيطرة الفئوية منبوذاً من كل فئات الشعب السوري، لصالح التطلع العادل الوحيد الذي هو المساواة في المواطنة.
خيبة كاملة من نمط سياسي فاسد نجح في إيهام عموم العلويين بالسيطرة وقادهم، مع كامل المجتمع السوري، إلى كل هذا الخراب
بعد 2011، سيما بعد تحول الثورة إلى حرب داخلية مخترقة دولياً، بات حال الموالين كحال “بالع الموس على الحدّين”، من جهة أولى، باتوا يعانون من الفقر إلى حدود الجوع، ويُزجون، باسم الدولة، في معركة لا نهاية لها ولا أفق، قتلت وأقعدت مئات الآلاف منهم. ومن جهة أخرى، يخشون تغيير النظام القائم، يقيناً منهم أن ما ينتظرهم بعده، أسوأ مما يعانون في ظله. وليس خافياً أنهم عملوا أقصى ما يستطيعون لتفادي ما كان يبدو لهم مصيراً سيئاً. واليوم يصحّ القول إن سقوط نظام الأسد لم يحرر معارضيه فقط، بل حرّر مواليه أيضاً. تحرّر الموالون من وهم مزدوج، وهم أن نظام الأسد يشكل حماية، ووهم أن الآخرين يريدون بهم شراً. وربما لم يكن من الممكن التحرّر من هذا الوهم إلا بالاختبار المباشر الذي عاشوه.
الهدوء الذي تلا السقوط المفاجئ لنظام الأسد، هو، في جانب منه، تعبير عن ذهول. إنه وقت للمراقبة الحذرة من جميع الأطراف، وهو ما يلقي مسؤولية كبيرة على القوات المسيطرة التي سيحدّد سلوكها شكل تفاعل مختلف فئات الناس معها. وما يعني أن تجاوز الخطر يحتاج جهوداً مشتركة من الجميع، وبصورة خاصة من القوى المدنية التي عليها أن تثبت حضورها بكل أشكال المراقبة والنقد والتوثيق ودعم المسارات القانونية للعدالة الانتقالية.
واكب الدخول السريع للقوات المنتصرة تحوّل سريع في الولاء. والحال أن هذه الظاهرة، في اتساعها، تشكل دليلاً على ثلاثة أمور: الأول ضعف ثقة الناس بعدالة سلطة القوى الجديدة ونزاهتها، وأخذها سلفاً، من دون اختبار، على أنها لا تختلف بشيء عن السلطة البائدة التي كانوا يتفادون شرها بإظهار الولاء التام. والثاني غياب أي رصيد محترم للسلطة السابقة في عقول الناس، ذلك أنها أنهكت المجتمع كله، وأوصلت البلاد إلى الحضيض على جميع المستويات، بما يدفع الجميع للتبرؤ منها. والثالث أن الولاء السابق كان، في جزء كبير منه، شبيه بالولاء المستجد، إنه ولاء لسلطة، أي ولاء لصاحب الأمر في بلد اعتاد الناس فيه على أن السلطة تحتل المجتمع وتشغل فيه كامل المجال العام، فلا ينجيك من سوء المصير سوى الولاء التام.
لم يفرح السوريون في تاريخهم لشيء إلا وانقلب فرحهم غمّاً بعد حين
قد يصح القول إن تسليم جمهور الموالين بتبدّل السيطرة هو نوع من الاستسلام، غير أن هذا القول ضعيف الحساسية. هذا التسليم هو بالأحرى إقرار بفشل التركيبة السياسية البائدة وتفسّخها، وإعلان صريح لخيبة متراكمة، رغم خطاب “النصر” الذي طالما بشر به النظام البائد. على هذا، يمكن النظر إلى تسليم الموالين على أنه تعلق بأمل. من هنا تأتي المفارقة أو حساسية اللحظة السياسية بالنسبة للموالين، إنهم يبحثون عن الأمل في سيطرة من أخذوه طويلاً على أنه عدو، لذلك تجد أن فرحهم بطاقة الأمل يقيده قلق غامض تغذّيه التصوّرات التي يحملونها عن القوى المنتصرة.
الأمل أن يكون فرح السوريين ثابتاً هذه المرّة. والحال أنه لم يفرح السوريون في تاريخهم لشيء إلا وانقلب فرحهم غماً بعد حين غير طويل. كان من ذلك مثلاً فرح السوريين بالاستقلال ثم فرحهم بالوحدة مع مصر، وكذلك بانقلاب حافظ الأسد 1970، وكان منه أيضاً تأمل الخير في أول خطاب قسم، في صيف عام 2000، للوريث الفارّ، ثم خيبتهم المريرة في كل مرّة. لا تدوم فرحة الناس ما لم يصونوا فرحهم بأيديهم. لا يدوم فرح شعب يستريح عن حماية فرحه، ويوكل أمره لنخبة ما، كائنة من تكون.