كأيّ تقني لا يتعدّى حدود اختصاصه، دعا “غير بيدرسون” يوم الأحد إلى إنهاء النزاعات في غزة ولبنان، للحيلولة دون امتداد تأثيراتها إلى سوريا. أي أن “المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا” يتحدث ضمن حدود تفويضه، ليبدو الخطر الماثل حالياً في توسّع الحرب، لا في الحرب ذاتها.
تصريح بيدرسون أتى من دمشق، واستبق به لقاءه وزير خارجية الأسد، ليعود فيؤكد على أن فحواه موضع اتفاق بينه وبين مضيفه. ومن المؤكد أن دعوته لتحييد الأسد تلاقي محاولات الأخير النأي بنفسه عن الحرب، مثلما تلاقي جهود قادة عرب والجهود الروسية المبذولة في الاتجاه نفسه منذ اندلعت الحرب على غزة. حتى الحليف الإيراني حرص في الشهور الأولى على إبعاد الأسد عن الحرب حمايةً له من الغضب الإسرائيلي، لكن يبدو أنه استشعر مؤخراً خطر انفكاك الأسد عنه جدياً، لذا تزايدت زيارات وتصريحات المسؤولين الإيرانيين المؤكِّدة على متانة حلف الممانعة، وعلى رأسها زيارة وتصريحات علي لاريجاني، مستشار المرشد.
فكرة الحيلولة دون وصول تأثيرات الحرب إلى سوريا هي فكرة غير واقعية في الأصل، فالتغلغل الإيراني من الحدود السورية مع العراق وصولاً إلى الحدود مع لبنان لا يمكن أن يكون بعيداً عن مجريات الحرب في لبنان تحديداً، ولا يمكن تالياً أن يكون بعيداً عن أي اتفاق على اليوم التالي، إذا صمدت الأنباء الواردة عن اتفاق لوقف إطلاق النار. ليبقى شبه الواقعي في الفكرة هو تحييد الأسد، على قاعدة أنه لا يملك القرار في أماكن سيطرته المفترضة، ولا يملك حتى القدرة على إبداء النوايا ولو لفظياً فحسب.
لكن الفكرة من حيث المبدأ ليست جديدة، فعندما اندلعت الثورة في سوريا، وباشر الأسد مواجهتها بقواته، ثم استقوى بقوات حزب الله، برزت آنذاك الدعوة الدولية إلى النأي بلبنان عمّا يحدث في سوريا. وقد اجتمعت الرئاسة والحكومة اللبنانية في ذلك الوقت على فكرة النأي بالنفس، من دون مطالبة الحزب بسحب قواته وبعدم التدخل في الشأن الداخلي السوري! بل كان من المفهوم أن الحكومة اللبنانية لا تستطيع مطالبة طهران بالنأي عن الشأنين السوري واللبناني، عطفاً على كونها صاحبة القرار في حرب الحزب السورية.
يمكن القول إن الإرادة الدولية الحازمة حمت لبنان خلال سنوات من امتداد الحرب السورية إليه، وهو ما فشلت فيه في الحرب الجديدة، بعد دخول الحزب في حرب أرادها حرب مشاغلة، أو جبهة إسناد لغزة بموجب خطاباته. ومن السهل في هذا السياق تذكّر الأصوات اللبنانية المعارضة للحزب، والمعارِضة لمفهوم “وحدة الساحات”؛ الأصوات التي دأبت على الدعوة إلى النأي بلبنان “مرة أخرى” عن الحرب التي في الجوار.
ولا شكّ في أن هناك الكثير من الأصوات اليوم، ومن مشارب متباينة، يريد أصحابها الانتهاء من “وحدة الساحات” التي بدأت إيران بفرضها منذ حربها على السوريين المناهضين للأسد. والبعض يريد، على نحو جذري، الخلاص من “القضية” الفلسطينية، بوصفها تنطوي أيضاً على مفهوم وحدة الساحات، ولو على نحو مستقل عن الهيمنة الإيرانية، بما أن “القضية المركزية” مفهوم سابق على النظام الإيراني الحالي وتوسعه.
وتسهل ملاحظة أن وحدة الساحات تتفوق واقعياً على المطالبة بتفكيكها، حتى إذا نجح جزئياً ومؤقتاً نأيُ طرف بنفسه عنها، أو نجح بالأحرى التوافق على تحييده في ظرف ما. ولا يصعب ردّ ذلك إلى كون الذين ينادون بوحدتها يمتلكون القوة لتنفيذ مشيئتهم، بخلاف استقلاليين من أصحاب الرأي هنا وهناك، حتى إذا كان قسم معتبر من آرائهم يندرج في مسعى وطني ناشئ، أو مأمول. أما إسرائيل، كطرف هو الأقوى عسكرياً، فهي تنادي بتفكيك الساحات حيثما يناسبها هذا، بينما يعمل جيشها باستراتيجية تتناسب مع وحدتها.
يشتد الميل إلى النأي بالنفس مع التدهور الكارثي الذي يضرب العديد من بلدان المنطقة، حيث يبدو خيار الانكفاء هو الأقل كلفة. وإذا أخذ هذا النزوع ملمحاً وطنياً هنا أو هناك، فمن الملاحظ أنه يتكاثر ضمن البلدان ذاتها. ففي لبنان مثلاً، ثمة أصوات تدعو إلى التقسيم، أو إلى لامركزية أشبه به، على قاعدة الخلاص من عبء الآخر، الشريك في البلد. سوريا أيضاً شهدت حالات من نأي نفس جماعي عن الصراع الذي بدأ بالثورة. والانقسام الموجود حالياً مثال بليغ على تعثّر المشروع الوطني الجامع، إن لم يكن تعذّره.
في كل الأحوال، كأنّ النزوع إلى النأي بالنفس يعمل بآليات تتجه لتكون تحت-وطنية، بينما يجري توحيد الساحات قسراً بواسطة القوى الإقليمية الساعية إلى الهيمنة. وحتى نأي جهة ما، أو تحييدها، يجري في الإطار نفسه، وبانتقائية تخدم القوى ذاتها، إلا أن الوضع الهشّ عموماً ينذر بمحدودية القدرة على الانكفاء، ويجعل فرضية الخلاص أو النجاة غير واقعية.
من نافل القول إن الاشتباك الحالي بين إسرائيل وإيران أنهى التوازن الإقليمي القديم، ولا توجد دلائل على أن الحرب ستنتهي بالضربة القاضية، أو على أن إسرائيل مصممة (بدعم أميركي) على المضي في الحرب لاستئصال النفوذ الإيراني برمته. أي أن إعادة تموضع إيران وأذرعها لا تزال واردة، ولا يُستبعد أن تجري العملية على نحو يتعذّر الفكاك منه للذين يريدون الخلاص. وهذا ما يُفترض أن يُخضع فكرة الخلاص بالانكفاء لمزيد من التشكيك، سواء بجدواها أو بواقعية تنفيذها.
في الأصل، تستلزم فكرة الانسلاخ عن المحيط الجغرافي المباشر قوةً ومتانةً داخليتين لتنفيذها، وعندما يتوفر ذلك فمن الدارج أن تسعى الدول إلى الاستفادة من ميزات قوتها في محيطها، لا الانعزال عنه. لكن ليس الانصياع لحكم الجغرافيا وحده ما يحتّم التفكير خارج الدعوة إلى التقوقع، بل لأن مواجهة “شرور” القوى الإقليمية، ومشاريعها العابرة للحدود، لن تكون ممكنة بأدوات ذات أفق محدود وضيق.
كنا قد انطلقنا في المستهل من دعوة بيدرسون إلى تحييد سوريا، وهي دعوة موظف تقني دوافعه مكشوفة. وفي منطقة يكثر الحديث عن كونها تعرّضت لزلزال ضخم لا تُعرف أبعاده بعد، سيكون من الابتذال التفكير على منوال بيدرسون، فأحداث الإقليم (منذ ما يقارب العقد والنصف) برهنت مثلاً على إمكانية حماية الأسد من العواصف، من دون القدرة ذاتها على تحييد سوريا.