حزب العمال الكردستاني يلتهم صنم أوجلان

عمر قدور26 أكتوبر 2024آخر تحديث :
حزب العمال الكردستاني يلتهم صنم أوجلان

العملية “الفدائية” الأخيرة في أنقرة، التي نفّذها عنصران من حزب العمال الكردستاني، تختلف عن سابقاتها من حيث التوقيت والمغزى. هي ليست مجرد عملية روتينية، أو حتى نوعيّة، ضمن الصراع المسلح الذي يخوضه الحزب ضد أنقرة. أمس الجمعة، بعد يومين من تنفيذ العملية، تبنّى الحزب العملية التي نفّذها، بحسب بيانه، عنصران من “كتيبة الخالدين”. ولا يخلو من دلالة أن أنقرة لم تسارع فور حدوث العملية إلى اتهام الحزب، بينما تبناها الأخير وكأنه يريد تبديد أدنى شك حول مسؤوليته.

الحرب قائمة أصلاً، إلا أن إشهار الحزب مسؤوليته هو بمثابة إعلان حرب جديد. فقد صادف (؟) في يوم العملية، الأربعاء، أن زار عمر أوجلان عمّه عبدالله أوجلان، الزعيم التاريخي لحزب العمال الكردستاني، في سجن إيمرالي. عمر أوجلان نائب في حزب “الديموقراطية والمساواة” المؤيّد للأكراد، وزيارته العم أوجلان كسرت العزلة المفروضة على الأخير منذ 43 شهراً. عائشة غل دوغان، المتحدّثة باسم حزب الديموقراطية والمساواة تولّت إعلان فحوى الرسالة التي نقلها نجل شقيق الزعيم أوجلان، وفيها يبدي استعداده للسلام، ولمطالبة حزبه بإلقاء السلاح وحلّ المسألة الكردية بالطرق السياسية.

ومن المرجَّح أن يكون ذهاب النائب أوجلان إلى سجن عمّه تتويجاً لاتصالات سبقت زيارته، ولمست من خلالها الحكومة التركية استعداد زعيم الحزب لمعاودة السير في المفاوضات بين الجانبين المتوقفة منذ عام 2015. يدعم هذه الفرضية سياقٌ بدأه الزعيم القومي التركي المتشدد دولت بهجلي، عندما بادر في البرلمان إلى مصافحة رئيس وأعضاء كتلة حزب الديموقراطية والمساوة الداعم للأكراد، وصولاً إلى أقواله يوم الثلاثاء، قبل يوم من هجوم حزب العمال، وفيها: “إذا رفع قرار عزل أوجلان فبإمكانه المجيء والتحدث في اجتماع المجموعة البرلمانية لحزب الديمقراطية والمساواة للشعوب، ويجب أن يعلن بأعلى صوته أن الإرهاب قد انتهى تماماً وأن المنظمة (حزب العمال الكردستاني) قد انتهت”. يضيف بهجلي أن خطوة كهذه سوف تمكّن أوجلان من الاستفادة من “حق الأمل”، وهو تعبير يُقصد به الإفراج عنه بعدما أنهى محكوميته.

كتب عمر أوجلان على حسابه في منصة X أن عمّه بصحة جيدة، وأن رسالته إلى الجمهور هي: “إذا سمحت الظروف بذلك، فلديّ السلطة النظرية والعملية اللازمة لنقل ما يحدث من مسرح النزاع والعنف إلى القانون والسياسة”. إلا أن القائد الحالي للحزب في جبال قنديل، جميل بايق، لم يتأخر ليعلن في اليوم التالي أن قيادة قنديل هي من يتخذ القرار، لا القائد العام أوجلان. يقول بايق: “أوجلان ليس مسؤولاً، ولا يستطيع إدارة الحزب. نحن، وحدنا، نستطيع اتخاذ قرار سحب المقاتلين إلى الخارج. لا يستطيع حزب الديمقراطية والمساواة، ولا أوجلان، اتخاذ القرار”.

الخلافات داخل حزب العمال ليست بجديدة، خصوصاً ما يتعلق بالدور الذي تلعبه قيادة قنديل، وعلى رأسها جميل بايق الذي تعدّى خطوط اللباقة التقليدية بالتصريح المنسوب إليه يوم الخميس الفائت، وفيه إعلان انقلاب على القيادة التاريخية لأوجلان. “المفاجأة” هي في الصراحة التي أُعلن بها ما هو معلوم من قبل، لجهة كون القرار الحزبي في قنديل، لا في سجن إيمرالي حيث يُعتقل الزعيم. الصورة الرائجة من قبل هي أن بايق وشركاءه يقودون الحزب كأمر واقع في غياب أوجلان، وأنه رغم اعتقاله قادر على اتخاذ القرارات الاستراتيجية الكبرى، وكان من المفهوم على نطاق واسع أنه سيعود لتولّي القيادة المباشرة ما أن تسمح له الظروف بذلك.

في التفاصيل، كان من الصعب على أوجلان قيادة حزبه. فهو معزول في سجنه تماماً منذ آخر زيارة عائلية له في آذار 2020، وهناك سوابق لعزله التام عن العالم الخارجي. الحديث هنا عن ربع قرن من غياب الزعيم عن حزبه، وفي غضون هذه المدة الطويلة تغيّر الحزب كثيراً عمّا كان عليه في نهاية القرن الماضي، ولا يُستبعد أن يكون أوجلان قد صار خارج الحسابات الحزبية تماماً، بمعنى أنه لم يعد مطلعاً حتى على الأطر العامة لسياسات حزب العمال، أو على التفاصيل الحساسة المتصلة بتحالفاته الإقليمية والدولية.

عندما اعتُقل أوجلان، في فبراير/شباط 1999، كان حسابات الحزب أقلّ تشعّباً مما هي عليه الآن. آنذاك لم يكن للحزب ثقل حقيقي في كردستان العراق، رغم اتخاذه من جبال قنديل قاعدة إسناد لعملياته في تركيا. ولم يكن وجوده في سوريا كما هو الحال الآن، رغم أن التقديرات كانت تشير إلى آلاف الشابات والشبان السوريين الذين تطوّعوا في حرب الحزب ضد أنقرة، فضلاً عن التبرعات التي كان يحصل عليها من أكراد سوريا.

اليوم، يمكن القول إن حزب العمال أصبح القوة الثانية في إقليم كردستان، ولو أن قوته غير معلنة، فهو يتمتع بنفوذ قوي في مناطق النفوذ التقليدي لعائلة الطالباني، وهناك بين الأكراد من يقول أن الحزب صار المسيطر الفعلي فيها. أما في سوريا، فالإدارة الذاتية الكردية، المنبثقة عن الحزب، هي فعلياً القوة المسيطرة الثانية بعد سلطة الأسد. وإذا كان هناك أهمية لوجستية لمناطق سيطرة الحزب المتعاظمة في العراق، فإن لمناطق سيطرته في سوريا أهمية مشابهة، يُضاف إليها العامل البشري، وأيضاً الموارد المالية الآتية من السيطرة على موارد النفط في شمال شرق سوريا، وأموال هذه الموارد “على محدوديتها” ذات قيمة ثمينة لإمبراطورية الحزب.

هكذا لم يعد الحزب تركيّاً كما كان عليه من قبل، وأضحت حساباته أشدّ تعقيداً؛ يكفي على سبيل المثال الانتباه إلى أن وجوده في العراق لا بد أن يحظى برضا إيراني، أما وجوده في سوريا فمرتبط بالحماية التي توفّرها له واشنطن. بعبارة أخرى، لم تعد تركيا هي ساحة النشاط الوحيدة للحزب، وربما لم تعد الأهم ضمن إمبراطورية الحزب التي تمددت. على ذلك، يمكن فهم اتهامات الفساد والتسلّط الموجَّهة إلى كوادر في الحزب، أي أنها معطوفة على تضخم المؤسسة الحزبية وتشابكها مع العديد من المصالح الخارجية التي لا تصبّ في نضال الحزب من أجل أكراد تركيا، باعتبار القضية الكردية في تركيا هي القضية المركزية حسب أدبيات الحزب.

صحيح أن أوجلان قد أسّس بعض تحالفات الحزب الحالية، إلا أنها لم تكن قبل ربع قرن على هذا النحو، ولم تكن الظروف الإقليمية شديدة التعقيد كما هي الآن. ومن المتوقع أن ذلك كله انعكس أيضاً على عموم طبيعة الحزب ومنتسبيه، لصالح بيروقراطية تناسب تمدد الحزب، وعلى حساب الملمح النضالي القديم. ويجدر التنويه هنا بأن الأجيال الجديدة من منتسبي الحزب لم تعايش قيادة أوجلان، والصورة الوحيدة لدى هؤلاء هي صورة القائد المغيَّب؛ الرمز.

وصورة القائد الرمز غير جديدة بالمطلق، فقبل اعتقاله احتل أوجلان مكانة رمزية مرتفعة، على غرار قادة الأحزاب الشمولية، وكانت مؤلفاته تُطبع بشكل مشابه للمطبوعات السوفيتية التي تروّج كتابات ماركس ولينين. بعد الاعتقال، راحت مكانة أوجلان الرمزية تعلو، وكأنها تعويض عن مكانته الواقعية المفتقدة. نفخَ قادة قنديل فيما هو رمزي، ومنهم الذين سينقلبون على أوجلان، لكون الفكرة السائدة هي أن أوجلان لن يخرج من سجنه ليعود قائداً في الواقع، أي أن الإعلاء من شأن أوجلان رمزياً مشروطٌ بعدم عودته زعيماً فعلياً للحزب.

فقط لغير المتابعين، قد يبدو مستغرباً القول أن قادة قنديل لا يريدون خروج أوجلان من السجن، وواحد من الآثار المحتملة لخروجه أن ينقسم الحزب بينه وبين المتشبّثين بسلطتهم الحالية. بهذا المعنى، لهجوم أنقرة الأخير دلالات متعددة، بعضها فقط يتعلق برفض قيادات قنديل التفاوض مع أنقرة، أما بعضها الآخر فيشير (وفق الأمثولة المعروفة) إلى أن الذين صنعوا صنم أوجلان هم على وشك التهامه.

المصدر المدن

اترك رد

عاجل