الضربات الإسرائيلية المتكرّرة على سورية منذ سنوات، وما نشهده من إجرام وعنف رهيب منذ أكثر من سنة في غزّة، ومنذ نحو شهر في لبنان، ليست حرباً، إنّها بالأحرى عقاب واسع. وفي مفهوم العقاب لّا قدرة للمعاقَب سوى أن يتلقَّى العقابَ بلا ردٍّ، أو بقدر بسيط من ردٍّ لا يقارن بفداحة الفعل.
كنّا ضعفاء هكذا غالباً أمام إسرائيل المدعومة من أميركا بلا حدود. صحيح، ولكنّنا نصبح أضعف أكثر فأكثر. كيف أصبحت بلداننا بهذه الهشاشة التي لا تتبدَّى فقط في العجز أمام العدوان الخارجي، بل أيضاً في التفكّك السياسي والاجتماعي، وفي سيادة آليات التحلّل الذاتي على آليات الترميم، في توليفة شيطانية لا يبدو أنّ لها حلاً، وكأنّ المشكلات العامّة عندنا لا تنتج عناصر حلّها، كما يفترض أن يكون الأمر، بل تُولِّد مزيداً من المشكلات التي تتعاضد وتدوم وتتفاقم.
معروف أنّ الاحتلال والاعتداء والتهديد الخارجي المستمرّ، يعزّز التضامن الوطني في البلد، غير أنّنا شهدنا في بلداننا ظاهرةً مقلوبةً، وهي المزيد من التفكّك الوطني. السبب أنّ الاحتلال والخطر الخارجي المقيم كانا في الواقع ركيزةً لبروز جماعاتِ حُكمٍ متكيّفةٍ في العمق مع واقع الاحتلال ومع وجود العدو المحتلّ، جماعات تستثمر في العداء للمحتلّ استثماراً مقلوباً، أي مضادّاً للتحرير ومنصبّاً على تكريس (وديمومة) السلطة التي في يدها، بوصفها جماعاتٍ تسيطر في السياسة والاقتصاد والثقافة، وتعتاش من التخريب الوطني المواظب، من فساد وتسلّط وتمييز وقمع وتحريض عصبيات إثنية وطائفية… إلخ، تخريب يرافقه صراخٌ “وطنيُّ” يشبه اللغو، ولكنّه لغو سلطات غير مقيَّدة وقادرة أن تُحيي وتميت، الأمر الذي كان من شأنه، مضافاً إلى أشكال الاستئثار والممارسات التمييزية، إفقاد الناس تماسكهم الوطني.
فارق القوة الواسع بين دولنا “الوطنية” ودولة الاحتلال المدعومة على طول الخطّ من قوى خارجية كُبرى، كان أرضيةً مناسبةً لاستقرار جماعاتٍ حاكمة أو سلطات ترجمت عجزها الوطني إلى آلية لاحتلال الدولة وتحويلها ملكيةً خاصّةً صالحةً للتوريث، أي تحويلها دولةً متكيّفةً مع واقع الاحتلال وسلطته، وتشكّل معه نظاماً إقليمياً واحداً يحافظ على الاحتلال ويكرّسه. أقصى طموح الجماعة الحاكمة المتكيفة هو أن تحافظ على وجودها، وقد باتت لا تحسب حساباً إلّا للمحتلّ، ولا تحرص على شيء بقدر حرصها على رضا المحتلّ.
معروف أنّ الاحتلال والاعتداء والتهديد الخارجي المستمرّ، يعزّز التضامن الوطني في البلد، غير أنّنا شهدنا في بلداننا ظاهرةً مقلوبةً، وهي المزيد من التفكّك الوطني
لا يعني قولنا هذا أنّنا نريد من الدولة أن تقوم بحروب وأعمال عسكرية ضدّ الاحتلال لتحرير الأرض، حين لا يكون لديها الإمكانات لفعل ذلك، بل يعني أنّ على الجماعة الحاكمة ألّا تنتهك عمومية الدولة، وألّا تجعل من السلطة أولويةً تفوق ما عداها كلّه، بما في ذلك صيانة أمان وسلامة المجتمع وتماسكه الوطني.
ينطلق تكيّف الجماعة الحاكمة مع الاحتلال من إقرارها بالعجز عن مواجهة المحتلّ بالقوّة. الإقرار بالعجز أمر مفهوم، ولا غرابة في أن تكون دولة ما في وضع ضعيف قياساً بالمحتلّ الذي يستولي على جزء من أرضها، ولا غرابة أنْ تعجز دولةٌ عن تحرير هذا الجزء بالقوّة. يمكن المجاهرة بهذا التسليم أو الإقرار، وجعله دافعاً نحو استراتيجية تعتمد النشاط السياسي والاستناد إلى القانون الدولي لاسترداد الحقّ، والانشغال، بدلاً من المواجهة العسكرية مع المحتلّ، في تكريس موارد البلد لصالح التنمية الداخلية بمفهوم واسع يشمل الاقتصاد والسياسة والتعليم.
لكنّ الجماعة ذات النهج التكيّفي مع الاحتلال تعمل بالضبط بالعكس من ذلك، إنّها تدرك بفعل معرفة الإمكانات والظروف والعلاقات الدولية، أو بفعل حروب سابقة مع العدو، كما هو الحال في مصر وسورية تجاه إسرائيل، أنّها عاجزة عن المواجهة، لكنّها تخفي عن الناس حقيقة تسليمها بالعجز، وتصلب البلد، اقتصاداً وشعباً، إلى ما لا نهاية، على خشبة كاذبة اسمها “التحرير”. على هذا، تصبح الجماعة الحاكمة طليقة اليد في عمل ما تشاء، فاحتكارها السلطة هو بغرض التحرير، وما ينجم عن سيطرتها من إفقار وقمع معمّم، يُصوَّر أنّه في سبيل الهدف الذي لا يُقاس ولا يُناقش ولا يُمسّ، وهو التحرير. والفشل الذي يدفع الناسُ ثمنَه في كلّ صعيد، إنّما هو بفعل تآمر الأعداء الذين يغيظهم ما نحقّقه من نجاحات، ويغيظهم موقفنا الصامد… إلخ. هكذا، في واقع هذه الجماعات الحاكمة المتكيّفة، يتحوّل الفشل برهاناً على الصمود، ويتحوّل العدو نعمةً لا يريدون زوالها.
غياب التطبيع، كما حال الدولة السورية مثلاً، شكل من التكيّف الذي قد يكون ذا فاعلية مضادّة للتحرير
يمكن أن ينتهي التكيّف مع الاحتلال باتفاق سلام وتطبيع مع الحال القائم، والاعتراف بالاحتلال، كما حصل ويحصل مع غير بلد عربي إزاء إسرائيل. غير أنّ غياب التطبيع، كما هو حال الدولة السورية مثلاً، هو أيضاً شكل من التكيّف الذي قد يكون ذا فاعلية مضادّة للتحرير أكثر من التطبيع، ذلك أنّ استمرار “العداء” يشكّل عذراً دائماً لجماعة الحكم لتبرير كلّ جريمة، وللتهرب من كلّ واجب وطني للدولة تجاه الشعب. في بداية الثورة السورية في 2011، رفع عناصر نظام الأسد على الحواجز لافتةً تقول “إسرائيل هي العدو”، وكأنّه بمثابة تذكير، ما يشي بأنّ أهل النظام يدركون أنّ إشهار عدائهم إسرائيل ينبغي أن يصدّ عنهم عداء الشعب السوري، بصرف النظر عن أيّ واقع أو حقيقة سورية.
حين تبيّن أنّ “العداء” للعدو لم يشكّل حائطَ صدّ في وجه الاحتجاجات، اتخذ تكيف الجماعة الحاكمة في سورية، شكل المواجهة التدميرية. تحوّلت اللغة الوطنية والصراخ الوطني السابق رصاصاً على المتظاهرين ودماراً في البنيان، كي تقول الصورة إنّ تكيّف الجماعة الحاكمة مع الاحتلال يعني أن تتحوّل هذه الجماعة تمثيلاً محلّياً غيرَ مباشر لسلطة الاحتلال ولسلطة القوى الدولية الكُبرى من خلفها. وكي تقول الصورة إنّ هذا التسلسل التسلطي ينتهي، بطبيعته، إلى تقوية وتعزيز موقع الاحتلال الإسرائيلي، وإلى إضعاف وتفكيك المجتمعات التي تسيطر فيها الجماعات المتكيّفة، التي يتكامل احتلالها للمجتمعات مع احتلال إسرائيل للأرض.
عذراً التعليقات مغلقة