كيف أوهنت الحرب السورية والذكاء الاصطناعي حزب الله

زياد ماجد6 أكتوبر 2024آخر تحديث :
كيف أوهنت الحرب السورية والذكاء الاصطناعي حزب الله

بعد شهور طويلة من تبادل القصف عبر الحدود، ورغم الفوارق الكبيرة في الخسائر البشرية والمادية بين حزب الله والإسرائيليين، ظلّ الحزب اللبناني متوازناً في إدائه العسكري ضمن قواعد اشتباكٍ تمسّك بها تجنّباً لحرب واسعة لم يُرِدها يوماً.
فما الذي جرى في شهر واحد لتتغيّر المعادلة المذكورة ويتعرّض الحزب لضربات أصابت الآلاف من عناصره واستهدفت بنجاح جميع قياداته وصولاً إلى أمينه العام، ودمّرت بلا خشيةٍ من ردوده المُفترضة عشرات القرى الجنوبية والأحياء السكنية في الضاحية الجنوبية لبيروت وطالت بلدات ومدناً في البقاع والجبل وصولاً إلى الشمال؟
وهل ما زال الحزب قادراً على الاستمرار في المواجهة والقتال؟

حسابات خاطئة

يفيد القول بدايةً إن حزب الله ومن خلفه إيران أخطآ في حساباتهما لجهة سوء فهم حجم الاندفاعة الحربية الإسرائيلية المستمرّة وقرار نتنياهو وحلفائه في اليمين الفاشي الاستفادة من التواطؤ الأمريكي والصمت الأوروبي والعربي، خلال تنفيذهم الإبادة الجماعية في غزة، لتوسيع الحرب وتحويلها إقليمية. كما أنهما أخطآ عند تقليلهما من مخاطر شنّ تل أبيب هجوماً على لبنان بلا خطوط حمر (في ما عدا أحياء العاصمة بيروت ومؤسساتها). ودفَع سوء الحسابات هذا الحزب إلى المحافظة على نفس الأداء العسكري والسياسي وعدم الردّ على بعض العمليات الإسرائيلية التي بدت مقدّمة لتصعيد واسع بحجة تجنّب الفخّ والتدهور الأوسع، ممّا أبقى زمام المبادرة تصعيداً أو تهدئة في قبضة الإسرائيليين. كما أنه أطاح بمفهوم فلسفة الردع، إذ بات التلويح باستخدام أسلحة ثقيلة وباستهدافات في العمق الإسرائيلي قليل التأثير بعد تكرار حصول ما كان يستوجب الاستخدام والاستهدافات المذكورة من دون اتخاذ أيّ من الإجراءات المناسبة تجاهه.
هكذا تدحرجت العمليات الإسرائيلية، بعد توسيع للقصف الهمجي في الجنوب، فاستهدفت القائد العسكري في الحزب فؤاد شكر في قلب الضاحية الجنوبية. تلا الأمر تفجيرات الـ«بيجر» وأجهزة الاتصالات التي أصابت جسدياً ومعنوياً الحزب بأضرار شديدة وضربت قدرة التواصل بين مسؤوليه وجزء من جسمه التنظيمي ككلّ وليس العسكري فقط. رغم ذلك، ورغم اتّضاح السقوط النهائي لقواعد الاشتباك، ظلّ الحزب على مكابرته، فلم يتراجع سياسياً عمّا أسماه جبهة الإسناد، ولم يردّ عسكرياً على نحو يعيد له الاعتبار المعنوي والميداني ويدفع الإسرائيليين إلى إعادة تقييم الأمور والتردّد قبل الاستمرار في اندفاعتهم العدوانية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل أن عدم استخدام بعض الصواريخ الثقيلة وضرب مصالح حيوية وأمنية إسرائيلية ادّعى الحزب القدرة على استهدافها مردّه عدم سماح إيران له بذلك (إذ تريد طهران إبقاء الاستخدام لمرحلة لاحقة إن تعرّضت هي للهجوم المباشر)؟ أم أنه نتيجة قصف إسرائيل لمنصّات الإطلاق ولبنية تحتية عسكرية ليس بمقدور الحزب من دونها الردّ على التصعيد بتصعيد مضاد؟ أم أنه بسبب الإيغال في سوء التقدير واعتبار أن ثمة ما لن تُقدم عليه إسرائيل بسبب خطوط حمر عسكرية ظلّ مقتنعاً بوجودها، وهي في الواقع كانت تتلاشى الواحد تلو الآخر؟
ثم جاء اغتيال قادة الحزب العسكريين في ضربة جديدة داخل الضاحية ليؤكّد أن تل أبيب اتّخذت قرار الحرب الشاملة وأنها ذاهبة فيها إلى النهاية، وهو ما ترجمه بعد أيام قليلة استهدافها للأمين العام حسن نصر الله ولعددٍ من معاونيه (ومعهم نائب قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني عباس نيلفوروشان) في قصف لم يسبق لشدّته مثيل، طوى بنيرانه صفحة من تاريخ الحزب وتاريخ لبنان.

«الانفلاش» في سوريا والتطوّرات التكنولوجية

لكن في ما هو أبعد من أخطاء التقدير والحسابات، أظهرت تطوّرات شهر أيلول/سبتمبر المنصرم أن حزب الله تعرّض لانكشاف أمني خطير مكّن الإسرائيليين من توجيه ضربات قاسية له، ما زالت متواصلة، مع استهداف السيد هاشم صفيّ الدين بهجوم قيل إن طاقته التفجيرية أكبر حتى من تلك التي قتلت السيد نصر الله. فما الذي جرى «فجأة»، وما الذي أوقع قادة الحزب الشديد المناقبية والمقفل البنية الأمنية خلال شهر واحد في هذا الحدّ من الوهن؟
لن يسهل الجواب عن السؤال هذا، وسيتطلّب وقتاً لتبيان ما جرى على ضفّتي المواجهة من تطوّرات وقرارات وتحليل معلومات. لكن المؤكّد أن عاملين لعبا دوراً مهماً في إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه.
العامل الأول يرتبط باختراق المخابرات الإسرائيلية جسم الحزب في مواقع حسّاسة من ناحية، والحصول على معلومات دقيقة حوله من طرف ثالث من ناحية ثانية. وإذا كان الحزب قد تعرّض سابقاً لاختراقات نجح في التعامل معها (بمعاونة فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي اللبناني)، فإن معادلة جديدة فرضت نفسها عليه بعد العام 2012، مفادها أن انخراطه في الحرب السورية على مدى سنوات طويلة نشرَ خلالها آلاف المقاتلين (المتبدّلين) خلف الحدود اللبنانية، وتعاملَ مباشرةً مع ميليشيات سورية وعراقية وأفغانية وباكستانية ضعيفة المناقبية، ومع أجهزة نظام بشار الأسد الفاسدة، ومع المخابرات الروسية، ومع ضباط إيرانيين لم يكونوا جميعهم ممّن ألف التعامل معهم في السابق أو ضمن بيئته اللبنانية، عرّضه لانكشاف في أرض لا يملك السيطرة على أي من مفاتيحها الأمنية. أدّى الأمر على ما يبدو إلى تجنيد مخابرات أمريكية وإسرائيلية لعناصر في صفوفه وفي صفوف حلفائه، وفي مقدّمهم نظام الأسد نفسه، بما سمح مع الوقت لهم باستثمار التجنيد هذا والاستفادة منه لجمع المعلومات الحيوية وتحليلها.
العامل الثاني الذي لم يُعره الحزب على الأرجح الأهمية الكافية هو مدى استخدام الجيش والمخابرات الإسرائيلية لبرامج الذكاء الاصطناعي (الأمريكية) الأكثر تطوّراً في العالم لتحليل البيانات وقاعدة المعلومات الأكبر في العالم أيضاً (الأمريكية بدورها)، ولاختراق منظومات إلكترونية وسيبرانية وبرامج هاتفية، وللاستفادة من سنوات تسجيل لمكالمات وتصوير لمواقع في لبنان وسوريا والعراق جواً (بواسطة الـ«درون») وأرضاً من خلال اختراق أنظمة مراقبة وكاميرات في مناطق يعدّها الإسرائيليون حسّاسة.
والواضح أن إسرائيل تعمل منذ سنوات طويلة (ثمة من يقول منذ فشلها الاستخباراتي والعسكري في حرب تموز/يوليو 2006) على دراسة خرائط انتشار حزب الله وتفاصيلها، ومثلها بنيته التنظيمية وهرميّته وشبكات تحالفاته اللبنانية والسورية والإقليمية. والواضح أيضاً أنها تراقب بمساعدة أمريكية (تُتيح لها الوصول إلى كلّ ما تخزّنه «الغيوم» والمواقع وخدمات الذاكرة لأكبر الشركات المنتجة والمتعاملة مع التكنولوجيا الرقمية) كلّ عمليات شراء أو استقدام معدّات محدّدة إلى لبنان، مثل أجهزة الاتصال والهواتف الذكية وكاميرات المراقبة، لاختراق برمجيّاتها أو تعديلها إن جرى الشكّ في كونها مستقدمة إلى حزب الله (وصولاً إلى استبدالها بأخرى مفخخة على نحو ما جرى مع الـ«بيجر»).
وإن قرأنا العاملين المذكورين معاً، أي الاختراق الأمني البشري من ناحية والذكاء الاصطناعي والتجسّس التقني والتصوير الجوّي من ناحية ثانية، أمكننا القول إن الإسرائيليين كوّنوا صورة دقيقة عن حزب الله ومواقعه وهيكليّته، وعملوا بشكل خاص على تحديد مواضع إقامة قادته والمؤشّرات التي تفيد بانعقاد اجتماعاتهم وغير ذلك من مسائل أتاحت لهم تنفيذ الاغتيالات، عبر الضربات الموضعية (أي استهداف طابقٍ في مبنى محدّد) أو التدميرية الواسعة (التي استهدفت حيّاً بأكمله أو مجموعة مبانٍ). ولم يكن ينقصهم سوى القرار بالذهاب إلى المواجهة الشاملة ليبدأوا بتنفيذ مخطّطاتهم، المعطوفة على المعهود منهم، أي ارتكاب المجازر ضد المدنيّين وترويعهم لتبيان أن لا روادع أو موانع تحول دون فعلهم ما يريدون حيث يشاؤون ومتى يشاؤون.
هكذا وعلى نحو تراجيدي، أخطأ حزب الله في تقدير قدرات إسرائيل العام 2023 حين قرّر دخول حرب لم يخطّط لها ولم يكُن بَعدَ وقوعها راغباً في استمرارها أو تصاعدها، وظنّ أن اشتراط وقفها بوقف إطلاق نار في غزة سيقصّر عمرها، إلى أن اتّسعت عمليّاتها وخرجت عن قدرته على التعامل الرادع معها. ولم يعد بوسعه اليوم الخروج منها، إذ ليس صحيحاً أن موافقته على وقف إطلاق نار ستُنهي الهجوم الإسرائيلي عليه وعلى لبنان، في لحظة يعتقد فيها نتنياهو أن الفرصة سانحة أمامه للمضيّ قدماً في إضعاف الحزب وتدمير بيئته الاجتماعية واستغلال التناقضات السياسية اللبنانية وجعل إعادة إعمار البلد عملية معقّدة ومنهكة ومليئة بالتوتّرات والخلافات.
الأرجح أن أمل حزب الله المتبقّي بات إيلام الإسرائيليين في الاشتباكات على الأرض وإيقاع خسائر كبيرة في صفوفهم (أكبر بكثير من تلك التي تلقّوها حتى الآن)، لدفع المؤسسة العسكرية في تل أبيب إلى إعادة النظر في اندفاعتها، بانتظار تطوّرات إقليمية ودولية (وانتخابات أمريكية) تطلق مبادرات تهدئة أو وقف إطلاق نار.
هذا وحده قد يلجم العدوان الإسرائيلي. ولجمه ينبغي أن يكون في أي حال الأولوية اللبنانية الوحيدة…

المصدر القدس العربي

اترك رد

عاجل