أتاحت الحرب القائمة في سوريا منذ عام 2011 فضاءً رحباً لتقارب السياسات الروسية الإيرانية، وذلك على الرغم من اختلاف طبيعة مصالحهما على الأرض السورية.
يمكن التأكيد على أن عام 2015 مثّل مفصلاً نوعياً في تقارب تلك المصالح، ونقصد بذلك التدخل العسكري الروسي المباشر، وبطلب مباشر أيضاً من جانب إيران، بهدف الحفاظ على نظام الأسد الذي يمثل بقاؤه أولوية سياسية مشتركة لموسكو وطهران معاً. وقد عزّز هذه الشراكة في الأهداف مباركة أميركا ومن خلفها الموقف الأوروبي، لتولّي الروس إدارة الأزمة في سوريا في ظل استراتيجية أميركية لا ترى القضية السورية إلا جزءاً مُلحقاً بالملف الإيراني، بينما اعتبرت محاربة داعش هدفاً مباشراً، باعتبار التنظيم يشكل خطراً على أمنها القومي ومصالحها في المنطقة.
من منظور الحسابات المباشرة، استطاع بوتين أن يكون صاحب الحضور الأقوى، باعتباره صاحب المنجز العسكري الأبرز أيضاً. وبموجب تلك القوة، لم يعد الروس مجرد أصحاب نفوذ في سوريا فحسب، بل باتوا أصحاب الوصاية العسكرية على نظام الأسد، تلك الوصاية التي تخوّلهم الإشراف على التنسيق بين الأطراف الفاعلة عسكرياً على الأرض السورية، فضلاً عن دورهم الريادي في رسم وتحديد قواعد الاشتباك بين الأطراف المتصارعة، بما يضمن لهم بقاء مصير الأسد مرهوناً بأيديهم.
في المقابل، سعت إيران إلى تعزيز حضورها الميداني في جميع مفاصل الدولة بما يتوافق مع رغبتها في أن تظل الأرض السورية مجالاً حيوياً لنشاطها ومنطلقاً لتوسعها تجاه البلدان الأخرى. وعلى الرغم من بروز بعض التباينات في المصالح بين كل من طهران وموسكو، إلا أن هذا التباين لم يصل إلى مرحلة التصادم طوال أكثر من عقد على نفوذهما المشترك في سوريا.
لن تكون مشاركة قوات الأسد في القتال الذي انطلق يوم السابع من شهر آب الجاري بين ما يسمى بقوات العشائر وقوات قسد في دير الزور سوى خروج عن سياق الضبط الروسي.
يبدو أن المسافة التي أرادها بوتين أن تبقى قائمة بين بشار الأسد من جهة وإيران وميليشياتها من جهة أخرى قد بدأت بالتناقص. كما يبدو أن مجمل التحذيرات التي وجهها الوصيّ الروسي لرأس النظام في دمشق في أثناء لقائهما الأخير في موسكو أواخر شهر تموز الماضي، والتي تمحورت حول ضرورة بقاء الأسد على الحياد حيال التصعيد الأخير بين إسرائيل وإيران، لم تصمد في مواجهة إصرار إيران على أن تكون سوريا بالفعل إحدى دول محور المقاومة، على حد تعبير الخامنئي في لقائه الأخير مع بشار الأسد في أثناء تعزية الأخير بوفاة الرئيس السابق إبراهيم رئيسي. ولعله من الصحيح أن هناك تفهّماً إيرانياً وآخر من حزب الله بتحييد نظام الأسد عن الدخول في أي مواجهة مباشرة مع إسرائيل، إلا أن ذلك التفهّم لا يعفي نظام دمشق من تعزيز دوره المقاوم والحفاظ على هويته الممانعة من خلال دوره غير المباشر في مؤازرة إيران وميليشياتها في استهداف المصالح الأميركية في سوريا. وبهذا، لن تكون مشاركة قوات الأسد في القتال الذي انطلق يوم السابع من شهر آب الجاري بين ما يسمى بقوات العشائر وقوات قسد في دير الزور سوى خروج عن سياق الضبط الروسي، الذي يخشى أن يكون الرد الإسرائيلي ليس محصوراً باستهداف قوات الأسد في سوريا فحسب، بل قد يشمل دعم تل أبيب لأوكرانيا في حربها مع الروس أيضاً. فضلاً عن خشية بوتين من أن أي تغيير ميداني لمواقع النفوذ داخل سوريا نتيجة المواجهات العسكرية ربما يؤدي إلى تقليص نفوذ روسيا، التي لا تملك في الأصل وجوداً عسكرياً ذا تأثير قوي منذ أن غادرت قوات فاغنر سوريا عام 2018.
بعيداً عن طبيعة مشاركة الأسد أو سلوكه حيال التصعيد الإيراني الإسرائيلي، سواء من خلال دعم قوات العشائر في استهداف قوات قسد، أو من خلال التسهيلات اللوجستية لميليشيات إيران، فإن الأهم بالنسبة إلى طهران هو أن تبقى الدولة السورية بكامل مقدراتها وإمكانياتها ضمن محور المقاومة. بل إن القيمة الفعلية لنظام الأسد – بالنسبة إلى طهران – تكمن في استمرار سوريا كمجال حيوي للسياسات الإيرانية وورقة تمسك بها إيران وتوظفها بل تمعن في استثمارها في مواجهة خصومها، وذلك بعيداً عما يتركه هذا الاستثمار للورقة السورية من تداعيات سواء على حياة السوريين أو على سلامة ومستقبل بلادهم.
لا شك في أن كلاً من روسيا وإيران لهما كامل الأثر في بقاء بشار الأسد على رأس السلطة في سوريا حتى الوقت الراهن. ولا شك أيضاً في أن نظام الأسد استطاع طوال السنوات السابقة أن يوازن بين مصالح الحليفين معاً.
في مقابل المشروع الإيراني الذي لا يسمح بأن يكون مصير الدولة السورية أكثر من ورقة تمكين في سياسات طهران، يسعى الوصي الروسي إلى توجيه نظام الأسد نحو مسار آخر من التفاهمات التي كان بوتين الطرف الأقوى في بنائها ورسم توجهاتها، أي دفع الأسد باتجاه المصالحة مع تركيا استئنافاً لما تم بناؤه في سياق تفاهمات أستانا، وخاصة أن الرغبة التركية بالتطبيع مع الأسد تتزامن مع حملة لعدة دول عربية تسير بالاتجاه ذاته، إذ ربما يؤدي هذا التوجه التركي والعربي إلى تسوية للحالة السورية لا تخرج عن الرؤية الروسية من جهة، وكذلك تحافظ على المصالح الروسية في سوريا كما أسس لها وراكمها بوتين منذ سنوات.
لا شك في أن كلاً من روسيا وإيران لهما كامل الأثر في بقاء بشار الأسد على رأس السلطة في سوريا حتى الوقت الراهن. ولا شك أيضاً في أن نظام الأسد استطاع طوال السنوات السابقة أن يوازن بين مصالح الحليفين معاً، كما أبدى رأس النظام استعداداً لا نظير له بالارتهان والتبعية بل بقبوله لشتى أشكال الامتهان، حرصاً منه على ألّا يظهر بمظهر العاق لدى أحد حليفيه أو كليهما معاً. ولكن، ما الذي يمكن أن يفعله نظام دمشق إذا فقد مقوّمات الموازنة بين الحليفين نتيجة تضارب مصالحهما إلى درجة التصادم؟ هل بمقدوره المغامرة بالانحياز الكلّي إلى أحدهما والتنكّر لمصالح الآخر؟ ربما كان الجواب نعم، فالأسد أولاً وآخراً هو مع من يحفظ بقاء سلطته. علماً أن تصوراً كهذا لا يخلو من تعقيدات ليست يسيرة، ولعل المهم في هذا السياق هو أنه كما كان توافق المصالح بين روسيا وإيران على حساب الشعب السوري وقضيته العادلة، فإن انتصار مصالح إحداهما على الأخرى واستفرادها بالفريسة الأسدية لن يكون سوى استمرار للمعاناة السورية.
Sorry Comments are closed