بوح على هامش الحرب.. امتحان البلور

مؤيد اسكيف11 أغسطس 2024آخر تحديث :
مؤيد اسكيف

في عام ٢٠١٢ سُرقت مقتنياتي الخاصة، مخبرٌ فضولي لديه شهية المكافآت -كالمئات ممن مروا علي في سنوات الحرب المتنقلة- اقتنص يومياتي والكثير من الصور القديمة من قلب منزلي، كنت أشعر حينها أني بتّ عاريا، إنها سرقة، ولأعز ما يمكن أن يملكه الإنسان، إنها ذاتي المسكوبة على الورق.. حواراتي الداخلية وصوت الضمير وعبء اللوم والندم .. إننا نرتكب الأخطاء أليس كذلك؟ لكن الجرأة دوما في مواجهتها، والتحدي في المثول أمام العدالة وقبول العقاب كما يفعل الفرسان. سُرقت الكثير من جلسات محاكماتي الذاتية، وأحكام القضاة التي صدرت بحقي، مرافعات محامي الدفاع الخاص بي وهو يصرخ بأني بريء من هذا الجنون، مشهرا كل الأدلة. وقميصي الذي عليه دم. سرقوا صوته. وصوتي. والقميص.
سنين طويلة مضت دون أن أكتب المزيد من اليوميات، أقلعت عن الشعر، مشاهدة الأفلام والموسيقى.. وصار الاستماع عندي لمحمد عبد الوهاب خيانة للحزن وللحرب. مؤخرا بتَ أطيل التمعن بأشياء أكثر إثارة وإن بدت أنها بلا قيمة، أتمعن بالأشجار التي نُحر تاريخها، بالخرف الذي أصاب جمال ريان وهو يحاول أن يكون مرياعا ناجحا، بالجنون الذي يُحتفى به في العراق كابتكار مقدس، بالطين وأنابيب الغاز والخرافة، بالملثمين واليتامى، بثقة عبد الله المحيسني وهو يرسل الإنتحاريين دون عصا.. جزرة فقط، أو حكاية شيقة تكفي لإثارة التيستوستيرون على أدق تعبير.
لا ينفع البلور في بلادنا، الأطفال مسلحون بالحجارة، وأبناء الشوارع والأشقياء، والمقاومون والمحتلون، ومراكز الدراسات وإعلاميو الحرب. الرصاص بالمجان على موائد اللئام الكثر، وكذلك فاحش الكلام والمخيال البورني الذي تتميز به فضاءاتنا.
مع ذلك سأشيّد بلوري على هذه الشرفة، وأنا أُطلّ على ساحة الحرب وأقرأ كشاهدة قبر للوطن على كل المارة الهاربين.. أسماء من ماتوا ومن قضوا ..
أعانق الجنود ثم أقرأ عليهم من شعر محمود درويش بقسوة، كمن ينهر فراشة حمقاء يغريها اللهب ويحرقها اللهيب، يجذبها النور وتهلكها النار، والبطولات والنياشين والغنائم والسيالات العصبية:
ومصادفةً، صار منحدر الحقل في بَلَدٍ
متحفاً للهباء…
لأن ألوفاً من الجند ماتت هناك
من الجانبين، دفاعاً عن القائِدَيْنِ اللذين
يقولان: هيّا . وينتظران الغنائمَ في
خيمتين حريرَيتَين من الجهتين…
يموت الجنود مراراً ولا يعلمون
إلى الآن مَنْ كان منتصراً !
على هامش الحرب موعدنا مع بوح من بلور آرامي الأسرار، أرمنازي الحكاية، سوري الشفافية والديمومة والإنكسار..
هذه دعوة لأصدقائي، للفضوليين، للمخبرين، ولمن يرغب في لحظات كثيرة برجمي بالكلام أو الحجارة والرصاص. قد يجدون ضالتهم في هذا البوح بينما أطل على ميادين الحرب بأبعادها الثلاثية والرباعية والدموية.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل