الصور القادمة من غزة أقل ما يقال عنها- غير أنها صادمة- أنها أيضا دليل بالصورة والصوت في معظم الأحيان على حجم الإجرام الذي يرتكب بحق الفلسطينيين، صور ستبقى في ذاكرة العالم مهما حاول هذا العالم النظر بعيدا وتجاهل آلام شعب يستغيث منذ شهور طويلة، بل ومنذ سنوات هي عمر الاحتلال.
صور القصف والأشلاء، صراخ الأطفال والآباء والأمهات الذين فقدوا كل أحد وكل شيء، ولكن أيضا صور الأسرى والمعتقلين.
صورة معزز عبيّات واحدة من تلك الصور التي لن تُنسى، صورته قبل الاعتقال وبعده، دخل المعتقل وهو بطل في كمال الأجسام، وخرج منه بعد شهور بجسد هزيل فاقدٍ للذاكرة لم يتعرف حتى على أطفاله، بعد الذي عاناه في سجن عوفر من تعذيب وصل لمحاولة القتل، وشارك فيه وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير.
عبيّات ليس أول ولا آخر أسير يدخل سجون إسرائيل ويخرج فاقدا للذاكرة والصحة، وليس أول ولا آخر أسير ستكون صورته شاهدا على انتهاكات إسرائيل لحقوق الأسرى، وحقوق الإنسان والقانون الدولي.
صورة معزز عبيّات واحدة من الصور التي لن تُنسى… صورته قبل الاعتقال وبعده
ومقابل صورة عبيّات، هناك صور الأسرى الإسرائيليين الذين احتجزتهم “حماس”، يخرجون من الأسر ليثنوا على حسن المعاملة التي تلقوها من كتائب “عز الدين القسام”، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، حتى صارت صور من خرج منهم حياً مضرب مثلٍ عند الكثيرين عن المعاملة الجيدة التي يتلقاها الأسرى الإسرائيليون الذين تحتجزهم “حماس”.
صورة نوعا أرغماني هي أيضا من الصور التي توقف عندها الجميع، أرغماني التي اختطفت في غزة وأطلق سراحها في عملية “أرنون” التي نفذها الجيش الإسرائيلي والشاباك بعدما ارتكبوا مجزرة في النصيرات وسط قطاع غزة أدت إلى مقتل وجرح مئات الفلسطينيين، أرغماني التي كانت التقارير الصحافية الأجنبية والإسرائيلية قد رجحت موتها بعد تعرضها للاغتصاب، خرجت من الأسر بصحة جيدة وتحدثت عن المعاملة الحسنة التي كانت تتلقاها، عن الطعام والموت الذي كاد يصل إليها بسبب القصف الإسرائيلي للمنازل والأحياء في غزة، عن السماح لها بالخروج للتسوق متنكرة بزي إسلامي برفقة خاطفيها.
وكان قد سبق أن نشرت “حماس” أكثر من فيديو لأرغماني منذ السابع من أكتوبر، حتى أطلق عليها البعض لقب “أيقونة” أزمة الرهائن.
وشتان بين صورة عبيّات وصورة أرغماني، فصورة أرغماني وغيرها من الأسرى الإسرائيليين الذين أُفرج عنهم إما بصفقة التبادل التي تمت أواخر عام 2023 وإما من خلال عملية “أرنون”، جاءت كرد من “حماس” على ادعاءات إسرائيل وبعض الإعلام الغربي عن قيام “كتائب القسام” الجناح العسكري للحركة بتقطيع رؤوس أطفال إسرائيليين واغتصاب النساء الإسرائيليات في السابع من أكتوبر.
صورة نوعا أرغماني من الصور التي توقف عندها الجميع… أرغماني التي اختطفت في غزة وأطلق سراحها في عملية “أرنون”
ولكن بين صورة عبيّات وصورة أرغماني هناك صورة أمين العابد، وصوت والده يصرخ في شوارع غزة. العابد ناشط سياسي فلسطيني في غزة معارض لحركة “حماس”، كتب منشورات على “فيسبوك” ينتقد فيها الحركة، فكان الرد أن اعتدى عليه أكثر من عشرين ملثما بالهراوات والسكاكين قالوا إنهم من الأمن الداخلي لـ”حماس” وفق ما ذكره صديقه عامر بعلوشة. تحطمت أسنان العابد كما يديه وقدميه.
التركيز على صورة عبيّات وأرغماني والمقارنة بين كيفية معاملة إسرائيل للأسرى الفلسطينيين مقابل كيفية معاملة “حماس” للأسرى الإسرائيليين، وتجاهل صورة العابد، هو المعنى الحقيقي لقيمة حياة الإنسان الفلسطيني، وهو جوهر الخلاف الأساسي مع “حماس”، والتي يحاول كتاب وسياسيو وحتى ناشطو الإسلام السياسي ومن يدور في فلكهم من يسار مـتأسلم أن يتجاهلوه بل ولا يتوانون عن اتهام العابد وكل من له رأي مشابه لرأي العابد أو كل من يستنكر الاعتداء على العابد ومن هم مثله، وهم كثر، بالعمالة والخيانة والكفر وكل هذه الاتهامات، التي يبدو أنها من الأدبيات في عقيدتهم السياسية.
حياة الإنسان الفلسطيني وكرامته مهمة بالنسبة لهؤلاء فقط إن كان المعتدي إسرائيليا، أما إن كان هذا الإنسان معارضا سياسيا لتوجهاتهم فالاعتداء عليه وقتله تأتي من ضمن الفعل “المقاوم”.
هذه الصور الثلاث هي جوهر ما يحصل في غزة منذ سنوات، وإن كنا نتوقف كثيرا عند النفاق الأخلاقي وازدواجية المعايير التي يمارسها الغرب تجاه قضايانا في هذا الشرق البائس دون أن نتوقف عند نفاق هذه الجماعات، الأخلاقي والديني والإنساني، ونفاق من يدور في فلكها، فلسنا سوى شركاء في الجريمة نعطي كل الذرائع للغرب لممارسة ازدواجيته، كما لإسرائيل لممارسة جرائمها، لسنا سوى أرقام يتوجب الوقوف عندها أحيانا وتجاهلها أحيانا أخرى، وكل ذلك يعتمد على من هو الفاعل.
عذراً التعليقات مغلقة