في نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني لعام 2012، اختفت سوريا بشكل كامل عن شبكة الانترنيت.
حدث هذا أثناء زخم الصراع المسلح، الذي تفجر بين فصائل الجيش الحر وبين قوات النظام المتقهقرة، وظهر آنذاك تحليل منطقي لما حدث، يقول بأن النظام أراد أن يخفي عن العالم مذابح وجرائم يرتكبها في مناطق كثيرة، فقرر منع الناشطين من إيصال الصور والتفاصيل للإعلام الخارجي، وكانت أفضل الطرق المتاحة أمامه هي بتر قناة التواصل، أي الشبكة العنكبوتية!
الأسديون أنكروا مسؤوليتهم عن الواقعة، لا بل إن وزير الإعلام آنذاك عمران الزعبي افتى من عنده، ووجه الاتهامات للفصائل المسلحة (العصابات الإرهابية) بتخريب الخطوط الأرضية، ما أدى إلى الانقطاع!
لكن هذا التصريح، لم يمنع جهات عدة من توجيه الاتهامات القطعية المبرمة ضد النظام، فقد سبق له أن قطع أدوات التواصل عن مناطق متعدّدة، خلال فترات سابقة، ما يجعله المتهم الأكثر جدارة، حيث إن “جسمه اللبيس” يجعله مؤهلاً للاتهام بهذا الفعل وبغيره.
غير أن المتعاقد الأميركي إدوارد سنودن ادعى في وقت لاحق وفي سياق فضحه لعملها، بأن مسؤولية هذه الواقعة تعود وبشكل كامل، إلى وكالة المخابرات المركزية الأميركية CIA، التي تراقب كل شاردة وواردة حول المعمورة، وأن الأمر لا يعدو كونه خطأ تقنياً من أحد موظفيها، وقد تم إظهار حيثيات ما قاله سنودن، في الفيلم السينمائي الذي حمل اسمه، بتوقيع المخرج أوليفر ستون في العام 2016.
نتائج الخطأ التقني قبل أيام قليلة، أدت إلى خروج مؤسسات مهمة حول العالم، كبعض المطارات والبنوك عن شبكة الانترنت، تم تداركه، والاعتراف بمسبباته من قبل شركة ميكروسوفت، أعاد إلى الواجهة وضع سوريا التقني، ولاسيما تخلف مؤسساتها، ومحدودية اندماجها في الشبكة العالمية!
وبينما يوصف هذا الأمر بأنه حالة غرائبية، تجاوزتها دول العالم بأسرها، حتى أن دولٍ مجاورة، لا تمتلك مقدراتها، باتت تتفوق على سوريا، لجهة الخدمات والمنتجات التي تقدمها في فضاء التواصل.
حصل هذه المرة، أن ازدهى بعض مؤيدي النظام من عدم تأثر المطارات أو البنوك المحلية، بما حصل في أمكنة أخرى، في فانتازيا قلما تمرّ على المتابعين، حيث يستعر الإعجاب بالتراجع، والانكفاء، والانعزال!
إنها واحدة من فوائد التخلف التقني بالنسبة لهؤلاء، فحيث لا يوجد طرق تصل البقعة المعزولة عن العالم وما يحيط بها، لا يُتوقع وصول الاضرار الناتجة عن السيارات والدراجات وحتى العربات التي تجرها الأحصنة!
والأمر يشبه محاولة منع الوباء، الذي ينتقل عبر الهواء، من الوصول إلى البلاد، عبر إغلاق المنافذ الحدودية!
لكن الأدهى في القصة، أن ثمّة من يرى في هذا الوضع بعض الإيجابية، ولا يُستغرب أن يراها آخرون نقطة تفوق!
في بلاد لا يستطيع فيها المواطنون التعامل مع الدفع الإلكتروني، وتصبح فيها عملية فتح حساب بنكي مشكلة عويصة، وهذا ما يحصل حالياً بعد ان قررت الحكومة التخلي عن الدعم العيني للفقراء، والتحول إلى التعويض النقدي، ولكن عبر البنوك!
ليس من الممكن الحديث عن ثقافة متكاملة، باتت تتحكم بالعالم كله، تنطلق في مفهوم التواصل عبر الشبكة، يمكن اعتبار التواصل الاجتماعي ومواقعه جزءاً بسيطاً منها، بينما لا يشعر السوريون بوجودها، في حياتهم، إلا لكونهم مضطرين لاستخدامها، من أجل معرفة ما يحصل حولهم، تبعاً لسياسة التعتيم الإعلامي المتبعة منذ عقود، ومن أجل التواصل مع أقربائهم، بعد أن صاروا متفرقين في جهات الشتات!
في العام 1997 وأثناء تصوير سلسلة ريبورتاجية عن الانترنت في سوريا بمناسبة “ذكرى الحركة التصحيحية”، تجوّلتُ برفقة الكاميرا في عدة مؤسسات، كانت تستخدم التقنية الممنوعة على الجمهور، وحين كان التقنيون يتحدثون خارج التصوير عن مشاكلهم، كانوا يركزون على الرقابة التي كانت تمارس على إمكانية وصولهم إلى الشبكة، وكانت تتولى هذه المهمة الجمعية المعلوماتية السورية، التي أسسها باسل الأسد ثم آلت بعد موته، إلى شقيقه بشار الذي صار وريث أبيه في حكم البلاد.
وإلى زمن ما قبل الثورة، كانت أوضاع الاشتراكات في الشبكة رديئة، وباهظة الثمن، وكان ثمّة شكوى يرددها مثقفو النظام عن ضرورة زيادة المحتوى السوري، وعدم تركه بين أيدي الفاعلين الذين يسوقون للتفاهة! لكن كيف أمكن لهؤلاء أن يتحدثوا بجدية، وهم يعرفون بأن تقريراً أمنياً يكفي لحجب موقع ثقافي أو منتدى اجتماعي؟!
لم يتغير الوضع كثيراً بعد الثورة في العام 2011، فالسماح للسوريين في استخدام فيس بوك وتويتر، وغيرهما من الشبكات، لم يأت من باب إطلاق الحريات، بل جاء من زاوية المتابعة الأمنية الدقيقة، بغية كشف التنسيقيات ومن يديرها!
ورغم أن الثائرين في غير مكان، خرج عن سيطرة النظام، قاموا بإنشاء شبكات محلية لا تمر عبر مخدمات النظام، ما سهل عليهم نقل الحدث السوري للعالم، إلا إن هذا لم يُمكّن المستخدمين من التعاطي مع كافة الخدمات المتاحة، فهذه تحتاج إلى بنية تحتية مستقرة، لا تخضع لمشغلين من خارج الحدود، ولعل ما حدث خلال الأيام الماضية، حين قطعت الشركات التركية الاتصال عن المستخدمين في الشمال الغربي، إثر الاحتجاجات على أحداث مدينة قيصري التركية، يوضح كم هي حاجة السوريين للإنترنت الخاص بهم ماسة وملحة! وأن ما يفرح به الأسديون من حكمة الانعزال عن العالم، ليس سوى لحظة مستمرة من السعادة بالعبودية.
عذراً التعليقات مغلقة