حرب شوارع في مدينة السويداء منذ ساعات المساء، تتوقف الاشتباكات قليلاً وتعود مع تجدد استهداف الفصائل المحلية للمراكز الأمنية. هذا ما ورد في صفحة “السويداء24” قرابة منتصف ليل الأحد. الصفحات المواكبة لانتفاضة السويداء نشرت تسجيلات حية يُرى ويسمع فيها إطلاق الرصاص والقذائف، والشرح يشير إلى أن “الفصائل المحلية” تتبادل إطلاق النار مع حرّاس مبنى فرع حزب البعث، ومع عناصر المخابرات في العديد من مقارها الموجودة في المحافظة.
“الفصائل المحلية”، وكما هو متوقع، نالت مع بدء الاشتباكات دعماً صريحاً على وسائل التواصل، يعكس في جانب منه الدعم الشعبي “الأهلي” في السويداء، ويعكس في جانب ثانٍ موقفاً “تقليدياً” متوقعاً من سوريين معارضين خارج السويداء. والدعم الشعبي الذي نالته الفصائل المحلية برز في الأيام الأخيرة، أولاً قرابة منتصف الشهر الحالي عندما اختطف فصيل “لواء الجبل” وفصيل “تجمع أحرار الجبل” خمسة عشر عنصراً من قوات الأسد كرهائن على خلفية اعتقال المخابرات الجوية في دمشق ريتا العقباني، وهي حسبما قيل ناشطة مدنية تنحدر من السويداء.
إثر تحرير ريتا العقباني انهال الشكر والثناء على الفصيلين اللذين احتجزا الرهائن، وشهدت ساحة الكرامة “المقر الرئيس للمظاهرات” احتفالية بذاك الانتصار. وكاد السيناريو يتكرر مع اختطاف الشيخ رائد المتني، هذه المرة في السويداء، بما فيه من حساسية لجهة المسّ بشخصية دينية وحدوث الاعتقال داخل المحافظة لا خارجها. إلا أن الرهائن من عناصر المخابرات الذين اختطفهم أنصار المتني على سبيل الرد أُطلق سراحهم، ثم أطلق سراح المتني من دون أن إظهار ما حدث كعملية مقايضة صريحة، ومن دون نشر معلومات واضحة عمّا حدث. الأكيد أن أخذ رهائن من مخابرات الأسد لقي تأييداً واسعاً كما حدث في حالة العقباني، وأن هذا النهج يحظى عموماً بدعم شعبي واسع.
للوهلة الأولى سيكون مغرياً النظر إلى احتجاز الرهائن بوصفه أسلوباً يثبت نجاعته مع سلطة لا تفهم سوى لغة القوة، وهي خلاصة بسيطة وصحيحة جداً بقدر ما تخدم الأقوى أيضاً. بل إن السلطة ذاتها “وبالوقائع” تثبت منذ ثارت السويداء أنها لا تريد التفاوض مع الانتفاضة التي يقول أصحابها أنها سلمية، في حين أذنت لرؤساء فروع المخابرات بالتفاوض من أجل تبادل الرهائن. جدير بالتذكير أن النهج ذاته ليس بجديد، فبعد مدة ليست بالطويلة من تشكيل فصائل تحت يافطة الجيش الحر بدأت عمليات الخطف المتبادل بين مخابرات الأسد وشبيحته من جهة وتلك الفصائل رداً عليها من الجهة المقابلة. حدث ذلك في حمص ودمشق أولاً ثم في العديد من المناطق، وحينها لم يكن الأسد قد اعتمد خيار الحسم العسكري رغم استخدامه العنف المفرط ضد الثائرين، وكانت الفصائل المعارضة تقدّم نفسها كحامية للحراك السلمي وتحظى بدعمه وفق ذلك.
لعل مجرد استقرار تسمية “الفصائل المحلية” والاعتراف بها يؤشّران إلى جانب هو في الظل من انتفاضة السويداء السلمية، مفاده أن العسكرة غير مرفوضة على أنها قوة ردع مقابلة لقوات النظام ومخابراته. بل إن العسكرة سبقت الانتفاضة السلمية الحالية، ولو من بوابة “الحماية الذاتية”، فقد حظيت الفصائل المحلية برضا واسع منذ ما يزيد عن عشر سنوات تحت عنوان التصدي لخطر داعش، وحظيت حركة مشايخ الكرامة بزعامة مؤسسها آنذاك وحيد البلعوس بشعبية أقل ربما على أرضية رفض انخراط أبناء السويداء في الخدمة الإلزامية ضمن قوات الأسد، وكان موقفه متقدماً على الكثير من المشايخ الذين كانوا أقرب إلى الموالاة، أما اليوم فربما يكون ورثة البلعوس أقل “راديكالية” من فصائل مستجدة على الساحة.
من الواقعية الإقرار بمصدرين مساندين للانتفاضة، ولولاهما من المرجّح أن تكون الأحداث قد أخذت مساراً غير الذي شهدناه منذ آب 2023. اصطفاف اثنين من كبار مشايخ العقل مع الانتفاضة، خاصة موقف الشيخ حكمت الهجري، كان ولا يزال له أثر لا يُنكر لجهة حماية المنتفضين من أعوان للأسد داخل السويداء نفسها، ولجهة ردع الأسد أمام البلوك الذي صنعه موقف المشيخة. وجود الفصائل المحلية أضحى بمثابة ذراع تنفيذي لما يشبه الإجماع الأهلي، وهو أيضاً بمثابة صمام أمان يردع الذين قد يستخدمهم الأسد من داخل السويداء، مثلما يجعله يتمهّل إزاء خيار الحرب عليها.
أي أن الواقعية تقتضي عدم التغنّي بعجز الأسد عن مواجهة الانتفاضة السلمية، وعلى ذلك عجِزَ عن القضاء على انتفاضة السويداء، فهذا التغنّي لا يستقيم مع ما يمكن وصفه بـ”نصف عسكرة” موجودة في الواقع، وإن لم تنزلق إلى العسكرة التامة باعتماد خيار الحرب، وهو بالتأكيد ليس خيار الفصائل المحلية الآن أو لاحقاً. للتذكير أيضاً، لم تكن الحرب “أو ما سُمّي بعسكرة الثورة” خياراً محبّباً للسوريين، وقابل المتظاهرون رصاص المخابرات والشبيحة بصدور عارية حقاً وبالورود بدايةً، وأول هجوم على مبنى للمخابرات أتى بعد ثمانية شهور من ارتكابها أعمال القتل والاعتقال في صفوف الثائرين.
التذكير بالماضي القريب لا يهدف إلى إقامة مطابقة حتمية معه، ولا إقامة تفاضل بين الأمس واليوم، ولا بأس استطراداً بالتذكير بأن قادة فصائل معارضة قبل اثني عشر عاماً كانوا يفاوضون ممثلي قوات ومخابرات الأسد بحضور للحرس الثوري الإيراني، بل راح قادة الفصائل يطالبون بحضور الإيرانيين كضامنين لأي اتفاق. ومن المعلوم أن الضامن الإيراني لم يلتزم بأي اتفاق، وهذا ما فعله الضامن الروسي لاحقاً، لذا قد لا يكون من الحصافة تصديق ردّ السفارة الروسية على الشيخ الهجري، والذي تضمن “عدم وجود أي توجيه من روسيا للسلطات السورية بإنشاء الحواجز، وأنهم حريصون على منع أي مواجهة مع المدنيين والمتظاهرين” حسبما نقلت صفحة “السويداء24” عن مصدر مقرَّب من الشيخ الذي كان قد تواصل مع السفارة مستنكراً التحركات الأمنية والعسكرية الأخيرة في السويداء، ومنها نصب حاجز “العنقود” في المدخل الشمالي، وهو ما فجّر الاشتباكات مساء وليل الأحد.
الصفحة ذاتها كانت قد أشارت قبل ثلاثة أيام إلى مناشدات وصلت من عائلة المعتقل مهند صياغة إلى فصيل “تجمع أحرار الجبل” للسعي لإطلاق سراحه بـ”كل السبل الممكنة”، مضيفةً أن الفصائل المحلية قد تلجأ إلى التصعيد في حال لم تتجاوب الأجهزة الأمنية مع المطالب المحقة لعائلة مهند صياغة بالكشف عن مصيره. وهذا الخبر السابق على الانفجار بسبب إقامة حاجز العنقود يشير إلى الأجواء لتعبوية السائدة، واستئنافاً لها أتى “بعد إعلان هدنة مؤقتة” نشر بيانات أو وعيد بتصعيد يفوق ما حدث ليلة الأحد إذا لم تتم إزالة الحاجز المذكور؛ الوعيد تراوح بين التهديد بدخول دوامة عنف غير محسوبة النتائج وبين الدخول في الحرب “من أوسع أبوابها”.
لحسن الحظ أن اشتباكات ليل الأحد لم تخلّف قتلى، والخبر الوحيد من هذا القبيل كان عن مقتل شاب بانفجار قنبلة يدوية بين يديه وهو في البيت، ما تسبب أيضاً بإصابة امرأة وفتاتين في الشقة نفسها، وهذا مؤشّر غير سارّ على مدى انتشار السلاح واستسهال التعامل معه. لكن تبقى الخشية ماثلة في كل لحظة من تصعيد شامل لا تملك “الفصائل المحلية” زمامه، بعكس ما يصدر عنها من وعيد. فالأسد، بتغطية من حلفائه ربما، هو الذي يختار توقيت المعركة، وقد لا تكون السويداء بعيدة عن استحقاق اتخاذ قرار من بين خيارات كلٌّ منها صعب أو شديد القسوة.
Sorry Comments are closed