المشهدية وجماليات السرد في رواية “أحقاد رجل مرهوب الجانب” للكاتب منصور المنصور

فريق التحرير24 يونيو 2024آخر تحديث :
ليلى العامري
رواية أحقاد رجل مرهوب الجانب للكاتب السوري منصور المنصور الصادرة عن دار سامح للنشر 2024

اليوم وما نشهده في هذا الطور اليباب، من تاريخ سوريا الحديث، سوريا المنكوبة بأعتى أنواع الشرور، التي قادها الديكتاتوريون عنوة عنا، آخذين بها باتجاه الخراب.. ونحن الذين لا يشار إلينا ولا نستشار، لا نملك سوى المقاومة بما أوتينا من قدرة على المقاومة، و لأن الكتابة فعل حياة، تبقى أهم وأبقى أشكال المقاومة، من هنا يأتينا الكاتب ليقدم لنا عملاً روائياً رصيناً ببنيانه المحكم من حيث الشكل الروائي، والمحمل برعشة الحياة الواقعية، فتتداخل العناصر الضرورية لنجاح أي عمل إبداعي، وهي: التجربة و الخيال والوجدان..
مقتطعاً رقعةً زمانيةً و مكانيةً من الحياة؛ كانت عصية على أن يلتهمها السرد الرسمي، مكتنزاً بها أحداثاً و أشخاصاً، عوالم، رؤى و تفاصيل، تجري على شكل نهر نتتبعه ملاحقين أمواج الأرواح و أشرعة الكلام، نركض في مجراه، نحبس النفس هنا، و على غير توقع نقبض على الدهشة هناك. هذا رغم التسلسل المنطقي للأحداث والزمن المتبع من قبل الكاتب، نبكي ونضحك، نحب ونكره، نستتر ونتعرى كما شخوصه وعوالمها تماماً..
إذن.. فلنتتبع الحكاية التي تبدأ من مصب هذا النهر.. نهر قرية (سعدة) الذي منه ستنداح الحكايات.. سعدة إحدى قرى حوران البسيطة بمفرداتها حيث مازال نمط حياة أهلها أقرب إلى النمط الفطري، مازالوا يعدون (الجلة) وقوداً لهم للتدفئة في ليالي الشتاء الباردة، ومازالت أزقة البلدة الموحلة و حقولها و بساتينها تشي ببساطتها، كما أن الأهالي يعرفون بعضهم البعض جيداً، وينقسمون بدورهم إلى وجهاء وعاديون ومسحوقون.. من هنا من هذه الخلفية يبدأ الكاتب سرداً عالياً وممتعاً وبلغة بصرية غنية وكأن عينه تتحول في بعض مفاصل الوصف إلى كاميرا، تنقل التفاصيل وفق تقطيع مشهدي، فيه من البراعة ما يكفي لتشكل الرواية برمتها سلسلة من اللوحات والمشاهد المنجزة والصالحة لأي عمل درامي .. وسأركز على هذا الأمر لأني أعتبره إحدى ميزات الرواية المهمة، لذلك وقبل الغوص بمفردات العمل و تفاصيله، سأورد بعضاً من تلك المشاهد على سبيل المثال لا الحصر:
● وصف أحمد وهو يجوس بأصبعه الخرق الموجود في البساط كحالة قهرية بالوقت الذي تئن زوجته من آلام المخاض الذي داهمها، هذا تحت ضغط وإلحاح والدة الزوجة بأن يجلب الداية..
● وصف المطر وأوحال الطريق وكيف أتى أحمد بالداية على ظهر الحمار تحت وابل من مطر ..
● موت أحمد وحيداً مع شريط ذكرياته الذي يتداعى حراً ومؤلماً وكأنه المسيح قبل الصلب حين انتحى شجرة بعيدا عن تلامذته في انتظار الصلب، بنفس الجهد والمكابدة..
● عندما كان ثائراً يطارد حازماً تحت مقاعد الصف في المدرسة وسط تشجيع بقية الطلاب مشهد في غاية الألم
● اغتصاب صبحة
● اغتصاب حازم
● وقوف الحاج مصطفى بعد خروجه من السجن أمام حازم في بيت فواز اثناء الحفلة وجحود الدكتور فواز وتركه لوالده الحاج مصطفى المتوفي حتى لا يفسد الحفل المكلف مادياً..
● موت جمال في المعتقل ..
بعد الوقوف على تلك المشاهد، تبدو الرواية بانوراما مشهدية للأحداث .. الأحداث التي تبدأ من عام ١٩٥٨ حتى ١٩٩٢ وما تخلل هذه المرحلة من فشل الوحدة بين سوريا ومصر مروراً بهزيمة حزيران و انتهاء بتكريس سلطة البعث وانتصارها بقوة القمع على أعدائها الإسلاميين والشيوعيين.
لنعد إلى أسرة أحمد
هذه الأسرة البسيطة التي تحمل ميراثاً من الضياع و التشظي .. ضياع النسب، أحمد الغير معروف لأهالي القرية، يتزوج من صبحة التي بدورها تنحدر من عائلة ليست فقيرة فحسب بل موضع اشكال كبير يخص أخيها حازم.. وهنا يمكن أن يقال: اجتمع المتعوس على خايب الرجا.. وفي غمرة هذا البؤس أتت الولادة.. ولادة حازم الابن (الحفيد) الذي أخذ اسم خاله المقتول بشكل بشع وقد اختلفت الأقاويل في موته، ليجدوه معلقاً من.. بهذه البيئة البشعة والرثة سيكبر حازم .. وفي يوم تلك الولادة كان ميلاد كلاً من ثائر وجمال فلننتظر نهاية الحكاية ونرى تشابك المصائر..
تكتمل المأساة بوفاة الأب أحمد الذي عانى من الاضطهاد والذل والاستغلال على يد الحاج مصطفى.. ومشهد وفاته كان تكثيفاً لمعاناته وانكساراته العميقة وكيف مر شريط ذكرياته أمام عينيه وخصوصاً مشهد أمه حيث يطأها رجل.. هذا البؤس لم ولن ينته مع موت أحمد ولن يكون نهاية المطاف، بل سيكون بداية لتعاسات كثيرة تمر بها العائلة.
الحياة لن تتوقف عن الجريان، رغم أنها غير عادلة، ولابد من أحد ما يحمل هذه التركة الثقيلة، وهل هناك سوى صبحة أم حازم؟!
فكانت صبحة تلك المرأة البسيطة الصلبة التي اشتغلت بالمزارع ملتقطةً سنابل القمح حتى اخشوشنت يداها، إلى أن سنحت لها الفرصة لتتعرف على سناء زوجة الدكتور فواز تلك الصيدلانية الدمشقية المتنورة. وقد توطدت علاقتهما ببعض، نظراً لحاجة كل منهما إلى الأخرى، سناء تحتاج لخدمات صبحة التي تجيد مهارات العمل المنزلي وصبحة تحتاج إلى النقود لتعيل أسرتها.
وقد حظيت صبحة بمكانة جيدة لدى سناء، فهذه العلاقة كانت جسراً لدخول حازم على خط العمل في حديقة منزل فواز ومن ثم التعرف على إلهام الابنة الوحيدة لتلك العائلة.. إلهام الحلم الذي لم يفتر في خيال حازم ولم تخبو ناره، ليتحول إلى حب مستحيل ومتلازمة تلازم وجدانه لسنوات طويلة وعندما التقيا في الجامعة تبدأ بينهما علاقة مركبة وحب من طرف واحد ..
هذا حدث بالتزامن مع دخول تغيرات في القرية كان لها أثراً مستقبلياً على مجمل حياة القرية والعلاقات الاجتماعية لأهلها.. فحين خصص الحاج مصطفى الدور الثالث في البناء ليستثمره، هذا الأمر كان سابقة في القرية الغير معتادة على تأجير بيوتها، كما أن تصاعد نفوذ أبو ثائر ووقوفه الوقح في وجه الوجهاء التقليديين في القرية، كما حدث عندما ذهبت جدة حازم إلى أبو عقلة لكي يذهب بدوره إلى أبو ثائر ليضع حدا لعدوانية ابنه ضد حازم ..
و هكذا نمت أخلاقيات جديدة بالقرية فرضها أبو ثائر، أخلاقيات مليئة بالشعارات الزائفة والرنانة الخالية من أي رصيد واقعي .. أبو ثائر مسؤول الفرقة الحزبية تعززت مكانته من خلال سلطة البعث الذي أصبح حزباً حاكماً، حتى أن البعثيين كانوا قادرين على قلب الهزائم وتحويلها إلى انتصارات، كما تم تحويلهم هزيمة حزيران إلى نصر على الاعتبار أن النظام لم يسقط..
ولا يمكن إغفال عدوانية ثائر كأبن شرعي لعقلية والده الذي بلغت حد الاغتصاب لحازم.. وأراه بداية لاغتصابات أكبر..
و على هذا الإيقاع المأساوي تستمر حياة هذه العائلة البائسة لتبلغ ذروة البؤس بعد اغتصاب الحاج مصطفى لصبحة وانكشاف الأمر الذي ترتب عليه الاختفاء النهائي لصبحة و أثره المذل على ابنها.. حازم الذي كان مع كل كارثة ينأى حلمه بإلهام ..
وقد لعبت سناء دوراً هاماً في إعادة حازم إلى المدرسة إثر انقطاعه بعد فضيحة أمه..
ومع هذه المتغيرات وسواها نمت للقرية استطالات باتجاه مدينة (دمشق) كان حازم أحد هذه الاستطالات .. فبعد نجاحه بالثانوية وذهابه إلى الجامعة بدأت في الرواية مرحلة جديدة وخصوصاً في حياة الشخصية المحورية في هذا العمل الروائي..
انفتح أفق آخر من الحكاية مع انتقال حازم إلى دمشق، ولم يكن أمامه خياراً سوى الرضوخ لظروفه الجديدة وقبول العيش في السكن المخصص للجامع، والخضوع لاشتراطاته، حيث توطدت علاقته بمجموعة الشباب الذين يشاركونه وهم: عبد الرحمن، سعد، أيمن.
عبد الرحمن الذي يمثل قوة الشريعة الساعي إلى تطبيقها، هو من يوقظ الشباب للصلاة ويحثهم على حضور دروس الشيخ الرفعاني في الجامع… أما أيمن في لقاء كان الأخير قبل اعتقاله، حاول أن يدعو حازم إلى تنظيم (الجماعة).
لكن العلاقة المختلفة والمميزة التي كان بها مساحة من الود والتردد في القناعات غير النهائية، كانت علاقة حازم بسعد.. فقد دخلا بحالات من الكشف والمسايرة وخصوصاً فيما يتعلق بقضايا المرأة والجنس والعاطفة، وقد روى كل منهما قصته العاطفية للآخر .. وغالباً ما كانت تنتصر الطبيعة الإنسانية على التعاليم الدينية الصارمة من نواهي وجوازم .. هذه المساحات العالية من البوح، تحدث فيها سعد عن علاقته بنوال وأيضاً باح حازم بحبه لإلهام.. وقد شكل حضورهما فيلم (الفهد) خرقاً كبيراً للتعاليم الدينية حسب منظور سعد الطفلي وكسراً للمحرمات الراسخة في عقله أكثر من حازم..
هذا السياق الهادئ والانسيابي لن يستمر، فسرعان ما يأتي هادم اللذات ومفرق الجماعات (الأمن) ليفسد الحياة على حازم، حين داهم المسجد وقام بحملة اعتقالات عنيفة على المسجد، ومع توقف السير الطبيعي لحياة حازم مع هذه الجماعة، عاد له الإحساس بالتشرد، رغم ذلك، تمكن من إيجاد عملاً له، عند أحد التجار المدعو أبو معين بوساطة من الشيخ الرفعاني، والذي تكشفت فيما بعد علاقته بضابط أمن..
التاجر أبو معين ساعد حازم في حماية نفسة من الاعتقال كان ثمنه التعامل مع الأمن.. لكن لم يترتب على هذا التعامل أي فعل من قبل حازم.
ومع فقدان حازم المأوى في السكن المخصص للجامع لم يبق أمامه إلا المدينة الجامعية التي سكنها أيضاً بواسطة.. ليتمكن من استئناف دراسته الجامعية بكلية الحقوق التي تجمعه بإلهام، في الجامعة استطاعت إلهام فرضه على مجموعة الأصدقاء الطلبة متعددي المشارب والأصول، ما بين أصول مدنية وأصول فلاحية ومن محدثي النعمة، ومن برجوازيين تقليديين من تجار وغيرهم..
أبناء القوة الجديدة، هم أولاد رجالات السلطة و كبار ضباطها،
مثل هذه الفئة رشيد ابن ضابط كبير فكان سلوكه حالة نموذجية لتلك الفئة وتجلت من خلال علاقته بإلهام، التي بلغت همجيته وسوء أخلاقه إلى درجة صفعه واغتصابه لإلهام حين شعر بتمردها عليه..
كما أن انتقال حازم إلى المدينة الجامعية واجتماعه مجدداً بجمال بعد طول انقطاع، الذي كان حامياً له في طفولته من بطش وتوحش ثائر، ويعرفه على بقية الشباب والصبايا.. فايز وحكمت وسحر وفاطمة .. ولتنضم إليهم لاحقا إلهام بعد علاقتها بجمال.. وقد عاش الشباب أجواء جميلة وغنية فيها الموسيقا والغناء والفكر والسياسة، وللمرة الأولى يسمع حازم بمصطلحات وأسماء جديدة ( البروليتاريا، ماركس …).
لكن ومع تأكد حازم من علاقة جمال بإلهام خرج من المجموعة لتلتقطه منى.
في كل بداية يهبط الغبش متكبراً حيث يكون الإبهام .. القوس .. القوس التي تبقى مفتوحة يتوسطها قدر نجهله.. فلنتساءل هل كان حازم يدري أن مقتل فأره وتلوث يده بدمها سيغير قدره وربما هذا الأثر إشارة لنجاسة ما؟!.
فعلاً يصبح حازم ضابطا في المخابرات بسبب هذه الحادثة وبتوصية من منى زوجة أحد كبار ضباط الأمن المدعو (أبو يسار) الذي تزوجها عنوة عنها وعن عائلتها، وهو يمثل بسلوكه العام حالة نموذجية لضباط اختبرناهم واقعياً، وستكون لعلاقة حازم بمنى عواقب وخيمة عليها وعليه..
تغير سلوك حازم وفقاً للمعطيات الجديدة لحياته، بنى داراً له في القرية واهتم بجدته حتى وفاتها .. وصحا الحقد بأعماقه، وشرع يقوم بأعمال انتقامية ضد كل من سبب له أذية في طفولته، انتقم من ثائر وها هو ينتقم من الحاج مصطفى بسبب خلاف حول قطعة أرض، ليلفق له تهمة الانتماء للإسلاميين.
لكن لم يكن في حسبانه أن آلة القمع العمياء لنظام استبدادي تأكل الجميع، حتى نفسها..
ورغم طاعته العمياء لرئيسه (أبو يسار) إلا أن علاقة حازم بمنى وشكوك أبو يسار بهما جعلت هذا الأخير ينتقم منه بطريقة لا تخطر على بال الشياطين! وذلك عندما قام بتكليفه بالتحقيق مع جمال صديقه الذي طالته يد الاعتقال في حملة ١٩٩٢..
هنا ترتفع المشهدية التراجيدية إلى أعلى مستوياتها لدى الكاتب حتى القارئ يخال نفسه أمام عمل مسرحي من أعمال كلاسيكيات المسرح أبطاله جمال وحازم، وأضاف الكاتب حضور إلهام كضرورة ليكتمل المشهد ويعلو بنا إلى الذروة حين هدد أبو يسار باغتصاب إلهام من قبل مجموعة من عناصره، ومن ثم قرار جمال الضمني بالانتحار، وبهذا يكون قد انقذ حبيبته وصديقه من تبعات الموقف، أما أبو يسار فكان يراقب المشهد عن كثب، كإله متعالي يقرر مصائر البشر، لينتهي المشهد على صوت إلهام التي تضع رأس جمال في حجرها وهي تغني:
قيدوا شمعة يا أحبة ونورولي رمشتين
من رمش عين و بيندهولي..
من هنا سكة ندامه..
و مع حشرجات موت جمال ينهي الكاتب حكايته ..
ولا يسعني في النهاية إلا أن أعتبر هذه الرواية سردية من سرديات مقاومة الاستبداد في سوريا، آملة أن تأخذ مكاناً يليق بها، كرواية هامة تحتمل العديد من القراءات، والرؤى النقدية المختلفة.

من حفل توقيع الروائي منصور المنصور روايته أحقاد رجل مرهوب الجانب في معرض الكتاب العربي في مالمو
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل