في البداية، قبل أيام، كانت غير مفهومة على نطاق سوري واسع موجةُ الدفاع عن نساء السويداء، فأبناء السويداء الذين تولوا مهمة الرد على وسائل التواصل لم يقدّموا توضيحات عمّا استفزّ غضبهم، باستثناء إشارات مقتضبة إلى وجود أشخاص أساؤوا لفظياً إلى النساء اللواتي يشاركن في مظاهرات. وكان من المعلوم أن التوضيحات المقتضبة “شديدة العمومية” فيها حرص على ألا يطّلع مزيد من الأشخاص على البذاءات التي طاولت نساء الحراك، وهو بمعظمه حرص ذكوري شرقي لأن تفاصيل أخرى كثيرة تخص حراك السويداء وما يتعرّض له كانت تُنشر بلا حرج مماثل.
استهداف النساء أتى قبل أيام، ويجوز إدراجه ضمن تطورات أخرى خاصة بالسويداء، آخرها تعيين محافظ جديد له سمعة دموية كضابط مخابرات أشرف على تعذيب وقتل الكثيرين في مدينة حلب أثناء ثورة أبنائها ضد الأسد. وكانت حملة الترهيب قد بدأت بالأخبار عن حشود قوات الأسد المتجهة إلى السويداء، ثم بادّعاء أبواق النظام وجود خلايا لتنظيم داعش في المحافظة، ما يحتمل قيام تلك الخلايا المزعومة بتفجيرات تنال من أمن الأهالي، أو تدخّل قوات الأسد على النحو الذي جرى بذريعة استهداف مخبأ لعناصر من داعش، وتصوير العملية لإثبات وجود التنظيم تلويحاً بالاستثمار في هذه التمثيلية.
أي أن التصويب على النساء هو على الأرجح من ضمن ضغوطات أخرى تستهدف الحراك، والذين يقفون وراء التصويب يدركون جيداً حساسية استهدافهن والترهيبَ المضمر، لا من حيث تخويف نساء أخريات من المشاركة في الحراك فحسب بل تخويف أهاليهن من ذلك. وقد يكون الأشدّ ترهيباً، فيما تنشره صفحات تستهدف النساء، القول أن مشاركتهن في المظاهرات موثَّقة بالصور، وأن الألفاظ المرفقة بنشر الصور تذهب إلى “تعهيرهن” بهذه الطريقة السافلة كمقدمة لاستباحتهن متى حظي الأسد بموافقة على استباحة المدينة.
فيما يبدو أنه استشعار لمغزى الترهيب، نشرت صفحات محلية مواكبة لحراك السويداء بيانات تردّ على تلك الحملة، وتدافع عن النساء المستهدفات، بل يتوعّد بعضها بالاقتصاص ممّن هم وراء الإساءات مع الإيحاء بأن الذين ينفّذون حملة الإساءات معروفون رغم تلطّيهم وراء أسماء وهمية. تنوعت الردود، فمثلاً نشرت شبكتا “السويداء24″ و”الراصد” بيانات واحد منها موقَّع في العاشر من هذا الشهر تحت عنوان طويل هو: بيان صادر باسم الضمير الجمعي لأبناء السويداء وبمعرفة مشايخ عقل السويداء ووجهائها والحراك السلمي المدني. وثمة بيان آخر باسم عائلة تعرّضت امرأة منها للتشهير يبدأ هكذا: بعيداً عن السياسة وإشكالاتها نعلن ما يلي: 1- أعراضنا خط أحمر، لا نسمح لأي كان بتجاوز هذا الخط، وكل من يفكر بهذا التجاوز دمه مباح لنا.
صفحة “الراصد” نشرت بياناً باسم شخص من السويداء يختمه بالقول: “إن مسألة استهداف الحراك من الجانب الأخلاقي أصبحت قضية رأي عام وعلى مسؤولية المجتمع بأكمله، وهي برسم الجهات الحقوقية والقانونية لمحاسبة من يقف وراءها ويموّل ويدعم الصفحات المشبوهة التي تتناول حرائرنا بعبارات وأوصاف ليست من أعرافنا وتقاليدنا وأخلاقنا، رغم قناعتنا المطلقة أن الكلاب تنبح والقافلة تسير”. هذا بالتأكيد أفضل من إباحة دماء المسيئين على النحو الذي ورد في البيان السابق للعائلة المتضررة، إلا أنه أيضاً ينزلق إلى جعل مشاركة النساء في الحراك “علامة فارقة فيه ميّزته عن كل ما سواه منذ بدايات الثورة السورية”، وفي هذا تبخيس لمشاركة النساء في مظاهرات واعتصامات الثورة في الشهور الأولى لانطلاقتها، ومنهن نساء ينحدرن من السويداء تظاهرن فيها أو في دمشق. يستأنف صاحب البيان: “إن وجود النساء في كل مفاصل حياتنا الوطنية في سوريا العظيمة عموماً وفي السويداء بشكل خاص يستند إلى إرث عريق في وجدان الأمة، فقد كانت المرأة فيه شريكة الرجل وسنده ومصدر عزته وكرامته ومنبع إثارة نخوته”.
أما البيان الصادر باسم “الضمير الجمعي لأبناء السويداء” فيقول أصحابه أنهم يتوجهون “بهذه الرسالة شديدة اللهجة، التي تحمل معنى الاستنكار وتحمّل وتحميل المسؤولية، إلى مسؤولي محافظة السويداء من محافظ وأجهزة أمنية وغيرهم بأن يوعزوا بما يلزم -وهم الأدرى بالكيفية- لضبط فلتان تلك الصفحات والحسابات المزيّفة على مواقع التواصل الاجتماعي وإقفالها، وغير مقبول منهم التنصّل والتفلّت من المسؤولية بحجة جهالة من يدير تلك الصفحات، فنحن وهُم والجميع بات يعلم من وراءها… وإلا الفتنة والشقاق سيقعان، وتبدأ كرة النار بالتدحرج!”. البيان ذاته يُستهلّ بهذا التأكيد: يتوافق جميع أبناء محافظة السويداء دون استثناء على المبادئ التالية: حماية (الأرض والعِرض والدين).
يوم الاثنين مثلاً نشرت صفحة موالية باسم “خبايا وأسرار حراك النساوين” صورة لرجل جرى تحويرها فأُلبِس ثياب امرأة، ووضع له حجاب، تحت عنوان: أحرار ساحة الكرامة. والصفحة ذاتها عادت إلى استهداف السيدة التي توعدت عائلتها باستباحة دم من يسيء إليها، ومن المرجح أن يكون مَن هم وراء المنشورات سعداء بقدرتهم على استفزاز شخصيات وعائلات وما سُمّي بالضمير الجمعي لأبناء السويداء، إذ يتضح من معظم ردود الأفعال أن القافلة مكترثة بنباح الكلاب وإن كانت مصممة على المسير.
نجح المتهمون بالوقوف وراء الإساءة إلى نساء الحراك في استدراج رد الفعل المطلوب، مثلما نجحوا من قبل في أماكن أخرى بمختلف الأدوات، منها استباحة النساء ومنها الاعتداء على رموز دينية. وبما أن أصحاب حراك السويداء يصرّون على تميزه عمّا سبقه، سواء على سبيل التفاخر بخصوصيته أو على سبيل القول أنهم استفادوا من الدرس ولن يكرروا الأخطاء السابقة، فمن الجدير بهم ألا يسمحوا باستفزاز الغرائز المتصلة بوعي ذكوري جداً لا ينسجم مع الحريات التي يُفترض أن الحراك ينادي بها.
لا يبشّر بأية قيمة معاصرة القول، باسم الضمير الجمعي، أن جميع أبناء السويداء متفقون على حماية (الأرض والعرض والدين). فالكل يعرف ترجمة هذه الثلاثية الآتية من وعي فلاحي قديم، وبموجبها تُحرم المرأة من حقوق أساسية، ومنها حريتها في التصرف بجسدها، لأن الأخير يصبح ملكاً لذكور العائلة ومعياراً لـ”شرفهم”. في الواقع ثمة قيَم تستحق الاتفاق عليها، وأن تكون ضميراً جمعياً لأهالي السويداء وغيرهم من السوريين، هي تلك المتعلقة بالحريات الشخصية، ومن ضمنها أن تكون أجساد الجنسين ملكاً حصرياً لأصحابها. وكي لا تبدو هذه مطالبة عسيرة التنفيذ على مجتمع تقليدي يكفي مؤقتاً عدم الانزلاق إلى مواجهة الإساءة بالنكوص إلى أشد الأواصر تقليدية، وهناك سبل أخرى عديدة لتسفيه المسيئين وعدم تنفيذ مآربهم.
أيضاً لا ينطوي القول أن المرأة منبع نخوة الرجل على اعتبار لها، أو اعتبار للرجل نفسه الذي يُستحسن أن تُستثار نخوته بدوافع من نوع مختلف، لا تحت وطأة الصورة المجتمعية للذكر. لذا من الأفضل عدم استرجاع المرويات القديمة عن دور نساء السويداء في إثارة نخوة الرجال، أثناء الثورة السورية الكبرى مثلاً، فنساء اليوم يتواجدن في الساحات على قدم المساوة مع الرجال. أما وصفهن بالحرائر، وقد تكرر رداً على الإساءات، فيُخشى أن يكون وصفاً سياسياً للالتفاف على المفهوم الأعمّ للحرية، الحرية التي من المأمول ألا تكون حكراً على اللواتي في الساحات، بل أن تندرج ضمن “الضمير الجمعي”.
سحب ورقة أجساد النساء من التداول العام هو مسؤولية أهل الحراك، وإلا سيصعب تلافي العواقب، فمثلاً عندما يُقال أن “العِرض” خط أحمر لن يكون مستبعداً لجوء الشبيحة إلى انتهاكه من أجل استفزاز المحتجين المصرّين على سلمية الحراك ودفعهم إلى العنف. الأهم، الآن وعلى مدى أبعد، يكون بمنع استخدام أجساد النساء وفق ثقافة العصور القديمة والوسطى، ثقافة الاغتصاب والسبي، وقد فعلها شبيحة الأسد باعتقال النساء واغتصابهن، وأفضل مواجهة ممكنة هي تحاشي ما يشتغلون على استفزازه ويرتدّ سلباً على الضحايا من النساء.
لا جديد فيما صدر دفاعاً عن نساء السويداء، وهنّ جديرات بدفاع أكثر شجاعة ومعاصرة. على أمل أن يشاركن بفعالية، فلا تُترك المهمة للذين تولوها بمنطق الذكر الحامي والمهيمن.
Sorry Comments are closed