مع حول الذكرى الثالثة عشرة لانطلاق الثورة السورية، فإن أي وقفة تأملية، أو أي جردة حساب لما جرى في سوريا بعد أن اجتاحتها ثورة الحرية والكرامة، تطول ما تركته من بصمات على حياة السوريين ووطنهم، خاصة أن الثورة أُجهضت، أو أفشلت، بفعل عوامل متعددة، داخلية وخارجية، كما تطول أيضاً المدى الذي يمكن أن تمتد إليه الأوضاع الكارثية في سوريا في ظل استمرار جثوم نظام الأسد على ما تبقى منها، والوقوف على ما أصاب سوريين كثراً، بسبب النهج الدامي الذي اتبعه هذا النظام في تعامله الوحشي مع الثورة وحاضنتها الاجتماعية منذ اندلاعها، وأسهم في تحويل بلدهم إلى مسرح لصراع إقليمي ودولي، استعرت فيه حروب أطراف إقليمية ودولية متعددة، من أجل تنفيذ أجنداتها ومصالحها الخاصة والمختلفة، وأخذت في معظم الأحيان شكل حروب بالوكالات على مناطق النفوذ والسيطرة، واستخدمت سوريين وقوداً فيها.
تأخذنا وقفة التأمل في هذه الذكرى إلى سؤال الخلاص من الاستبداد الأسدي، الذي خرج السوريون من أجله في ثورتهم، ولا يجد سوى غصّات ثقيلة تطبق على صدورهم، وتمتد إلى ما آلت حالة التفتت والتناثر والتشظي في بلدهم، وقسمتها إلى مناطق متعددة، تحكمها سلطان أمر واقع، فرضت نفسها كسلطات حاكمة بقوة السلاح، حيث بقي القسم الأعظم منها تحت سيطرة نظام العصابة الأسدي الذي تتقاسم النفوذ معه قوات روسية وميليشيات متعددة الجنسيات، تتبع نظام الملالي في إيران وأخرى إيرانية، في حين تفرض سيطرتها فصائل متشددة وأخرى مدعومة من تركيا على مناطق في شمالي سوريا، بينما تسيطر على مناطق شرقي نهر الفرات ميليشيات تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، المسيطر عليه من طرف حزب العمال الكردستاني.
تعبّر غصّة القلب لدى سوريون كثر عن خيبات موجعة لما آلت إليه الأمور، نتيجة فشل الثورة، التي تناهش جسدها لاعبون كثير، تربصوا بها وواجهوها
قبل ثلاثة عشر عاماً خرج شباب وشابات سوريون في تظاهراتهم الاحتجاجية السلمية إلى شوارع وساحات مدنهم وبلداتهم وقراهم، كي ينالوا حريتهم، ويتحرروا من براثن قمع نظام الأسد، ولسان حالهم كان يقول: “أنا إنسان.. ماني حيوان”. تلك العبارة التي صدح بها أحدهم، للتعبير عما كان يختلج قلبه من ألم، جراء ثقل وهول ما عاناه، مثله مثل سائر السوريين، من ممارسات نظام الاستبداد، وجسّد بها كوجيتو الثورة.
تعبّر غصّة القلب لدى سوريون كثر عن خيبات موجعة لما آلت إليه الأمور، نتيجة فشل الثورة، التي تناهش جسدها لاعبون كثير، تربصوا بها وواجهوها بالعداء، وخاصة ساسة النظامين الروسي والإيراني الذين بذلوا كل ما يمكنهم من أجل وأد الثورة، وإسناد نظام الأسد، على مختلف الصعد، العسكرية والاقتصادية والسياسية، ولم يكونوا حدهم في هذا السياق. إضافة إلى أن سائر القوى الخائضة في الدم السوري كان لها دورها أيضاً في إفشال الثورة، وخاصة الساسة في الولايات المتحدة وأوروبا والساسة الأتراك وساسة معظم الأنظمة العربية، مع الأخذ بالاعتبار اختلاف أدوارهم وتدخلاتهم وحجم إسهامهم، لكنهم جميعاً اشتركوا في العمل على حرف مسارها وتحطيم وعود الثورة. والأهم من ذلك كله الدور الذي لعبته تشكيلات المعارضة السياسية والعسكرية في هذا السياق، خاصة تلك التي أسهم في تشكيلها لاعبون دوليون وإقليميون، وأسهمت جميعها في حرف مسار الثورة، والإيغال في العسكرة، التي أضرت كثيراً بها، إضافة إلى محاولات قوى سياسية سورية الاستئثار بالثورة والركوب على ظهرها، واحتكار تمثيل المعارضة والقبض على هيئاتها.
تذهب الوقفة التأملية المطلوبة إلى القيام بجردة حساب، ونقد الذات، ونقد المواقف، وتبيان الأخطاء، والتوقف عند كل أدوار من أسهموا في إجهاض الثورة، الذي شكّل العلامة المشتركة بين قوى سورية ودولية، خاصة قوى العسكرة والمعارضة. وليس من المفارق أن القوى الدولية لم تكترث لمصاب السوريين، لا على المستوى الأخلاقي، ولا على المستوى الإنساني والحقوقي، لأن تضع حساباتها السياسية النفعية فوق كل ما تقوله عن المبادئ العالمية حول حقوق الإنسان والحرية والعدالة ونصرة الضحايا وسواها، والتي تبالغ في كينونتها. وقد أظهر تعاملها مع الثورة السورية، مرة أخرى، أنها لا تقيم وزناً لتلك القيم والمبادئ، التي تخضعها لتوظيفات وإرادات قوى الهيمنة والسيطرة، التي أرادت تحويل الثورة إلى صراع مقيم، عملت على إدارته وفق ما تقتضيه مصالحها، لذلك لم تحرك ساكنا لمنع نظام الأسد من قتل المحتجين السلميين أو المدنيين العزل، أو ردعه عن استخدم كل أنواع الأسلحة الفتاكة وحتى المحرمة دولياً، بما فيها السلاح الكيماوي، الذي استخدمه النظام ضد المدنيين العزل في غوطة دمشق الشرقية في آب/ أغسطس 2013، وذلك على الرغم من أن استخدامه كان يمثل خطاً أحمر، وضعه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بنفسه، ثم قام بابتلاعه في صفقة مشبوهة مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، في حين ما يزال مرتكب جريمة الكيماوي حراً طليقاً.
لم تبتعد شعارات المحتجين، في وقفاتهم ومظاهراتهم في ساحة الكرامة وسواها، عن الشعارات التأسيسية التي رفعها الناشطون في بدايات ثورتهم السلمية
غير أن ما يغذي أمل السوريين في الحرية والتحرر، هو أن الذكرى الثالثة عشرة لاندلاع الثورة، تأتي في ظل استمرار حراك السويداء الاحتجاجي، الذي أكد افتراقه عما شهدته المحافظة من حراكات خلال الأعوام القليلة الماضية، من حيث العمق والاستمرارية وجذرية المطالب، فهو الأكثر زخماً في فعالياته، والأكثر جذرية في مطالبه، ويشكل تحدياً كبيراً لنظام الأسد، فضلاً عن أنه أعاد التأكيد على عدم انفصاله عن الحراك الشعبي السوري العام، الذي انطلق مع الثورة السورية في منتصف آذار/ مارس 2011، لذلك لم تبتعد شعارات المحتجين، في وقفاتهم ومظاهراتهم في ساحة الكرامة وسواها، عن الشعارات التأسيسية التي رفعها الناشطون في بدايات ثورتهم السلمية، فأطلقوا العنان لحناجرهم، كي تصدح أصواتهم بشعارات سياسية واضحة، ركزت على تجديد المطالبة برحيل بشار الأسد وإسقاط نظامه، وتنفيذ القرار 2254، ورفض وجود قوى الاحتلال في سوريا، وخاصة الروس والإيرانيين.
ستبقى أسئلة الثورة ماثلة ما دامت المأساة السورية قائمة، وتزداد عمقاً، حيث لا تبدو أن نهايتها قريبة، بل إن كل المعطيات تشي باستمرار معاناة السوريين، سواء في مناطق سيطرة قوى الأمر الواقع، بمن فيها سلطة العصابة الأسدية، أم في دول الشتات والمهجر، وبالتالي ما يزال درب الآلام السوري مريراً وطويلاً.
Sorry Comments are closed