ثمة فظاعة في هذه الصورة. التقطَها المصوّر تسفرير آبايوف في 19 شباط/فبراير 2024 لمجموعةٍ من الجنديّات الاسرائيليات لحظة أخذهنّ «سيلفي» أمام حطامٍ رهيب لحيّ سكني سُحقت مبانيه في قطاع غزة.
لم يُشر المصوّر على صفحته في إنستغرام إلى موضع التصوير الدقيق. لكننا نفهم من تعريفه البارد والبليد بهذه الصورة الاستثنائية العنف أنها من شمال القطاع. وَضع الكثير من الـ«هاشتاغ» تحتها، مستخدماً مصطلحات حربية إسرائيلية، وأشار إلى الهوية «الجندرية» للعناصر العسكرية، وحدّد بالطبع نوعية كاميراه وحجم عدستها ومستوى حساسيتها.
قد يكون عدم الإشارة إلى المكان، في هذه الصورة وفي سلسلة صورٍ لا تقلّ بشاعةً تبعتها ضمن ألبوم المصوّر ذاته، مرتبطاً بأوامر الرقابة العسكرية الإسرائيلية. وقد يكون مجرّد سهوٍ أو عدم اكتراث منه. أو قد يكون مردّ ذلك ببساطةٍ أن قطاع غزة بأكمله مدمّر (أو شِبه مدمّر)، والتصوير والـ«سلفي» أمام أي ركامٍ داخل مدنه ومخيّماته يحمل الدلالة والمعنى إياه: نتصوّر ونبتسم للعدسة ونُبيّن ما جعلناه أشلاء أمكنةٍ، ومساكن أشباحِ من اختفوا قتلاً أو تهجيراً.
الصورة والغياب
توثّق هذه الصورة إذن، قبل الحديث عن الجنديات العشر فيها، للدمار والغياب. دمار البيوت والأثاث والمرايا ولُعَب الأطفال والأسرار المحفوظة تحت عتبات الأبواب أو ثقوب الجدران، وغياب «السكان الأصليين» المطرودين إلى خيمٍ في رفح أو المقتولين، ومن بينهم ربما من لا يزال مدفوناً تحت الأنقاض الجاثمة في خلفية الصورة أو في مستواها الثاني.
والأنقاض هذه وما ترمز إليه هي السبب الأبرز لقرار المعنيّات بالتوقّف لأخذ الـ«سيلفي» أمامها أولاً، ثم قرار المصوّر بتصوير متّخِذات الـ«سلفي» المذكور ثانياً. بمعنى آخر، وفي مسار معكوس، هناك مصوّر للمشهد المكتمل، ثم مجموعة الجنديات اللواتي يصوّرن أنفسهنّ داخله، وهناك الخلفية، الأنقاض، التي هي ديكور الصورتين، والخالية من البشر، المُغيَّبين إعداماً أو إبعاداً.
والأرجح أن لا الجنديّات درينَ، ولا مصوّرهنّ الذي أتاح لنا أن نكتشف الـ«سيلفي» الخاص الذي أخذنَه، أن الغياب والدمار هما ما سنفكّر فيه كشاهدين وشاهدات على هذه الصورة-الوثيقة ونتساءل عن مصائر الغائبين، بمعزل عن المتصوّرات والمصوّر. فلا وجوه الجنديّات وحركة أجسامهن الاحتفائية بالـ»سيلفي» وسعيهنّ انحناءً أو تموضعاً داخل الإطار أو رفعاً لليد الحاملة الهاتف هي ما سيبقى في ذاكرتنا من هذه الصورة. ولا «موهبة» المصوّر واستخدامه «فيلتراً» تُتيحه التكنولوجيا السهلة سيجعلنا نحلّل الزاوية التي اعتمدها ومدى الـ«زوم-آوت» الذي قرّره أو سماكة الألوان التي لجأ إليها و«الفوكوس» الذي شاءَه مثبّتاً على الجنديات في الوسط (في المستوى الأول).
فالدمار والغياب هما أفق هذه الصورة وحاضرها، والجنديات العشر في لباسهنّ الأخضر وبنادقهنّ وهاتفهنّ وخوذاتهن وبدلاتهنّ الواقية من الرصاص عابرات سبيل، يظهرنَ في نزهة أو في مهمة مرحٍ تلت مهمّاتٍ شاركن فيها ربما أو قادها آخرون من زملائهن وزميلاتهن، فأبادوا خلالها ما تيسّر من سكّان المنطقة المُحتفى بتصويرها.
الصورة ومخيّلة الاستيطان
على أن الصورة هذه، في ما هو أبعد من لحظتها، شديدة التعبير عن ماهية الاحتلال وعن جوهر الاستيطان.
ولَو كان الـ«سيلفي» مُخترعاً العام 1948 أو العام 1967 (أو العام 1982) لرأينا الآلاف مثلها من صور التباهي بتدمير البلدات وإفراغها من سكّانها.
كأن هدف التصوير في هكذا سياق، كما هدف الاحتلال والاستيطان، هو الجثوم في مكانٍ والسطو عليه ما أمكن من الزمن، بعد تخريبه ونهب ما نجا من التخريب.
كأن الهدف هو الاحتفاء بالإبادة المادية للآخَر وتصوير اللحظة التالية للأمر علّها تصبح بذلك طويلة مديدة، تماماً كما يفعل الاستيطان إذ يلي الاحتلال العسكري ليُكرّسه ويمدّه بالقدرة على الاستمرار والاستناد إلى ناس وبشر يقيمون في أماكن مَن قتلَ أو طرد.
وإذا كانت الجنديّات العشر العابرات في هذا المكان يسعين إلى التباهي بلباس عسكري وموقع تصوير ودمار يعبّر عما أنزله جيشهنّ بالعدوّ من خسائر فادحة، فإنهنّ يُسهمن في فعلتهنّ الشنيعة هذه بتقليص الفوارق في التوحّش بينهنّ وبين رفاق سلاحهنّ من الذكور الداخلين إلى بيوت الغزاويين لسرقة ما نجا من القصف والحرق والجرف (والمتباهين أيضاً في صور كثيرة بمسروقاتهم وغنائمهم).
وتقليص التوحّش هذا ليس بالمساواة التي تنادي بها النسويات. وهو لا يُفيد حتى الدعاية البائسة في الغرب حول الانخراط الشجاع للإسرائيليات في الجيش. هو مجرّد تقليدٍ كريه لسلوك رجالٍ مليئين عنفاً وكراهية وتفاهةَ ذكوريةٍ، معطوفاً على نرجسيةٍ ليس أكثر تعبيراً عنها من «سيلفي»، تجوز تسميته في الحالة الماثلة أمام عيوننا بـ«سيلفي الإبادة الجماعية».
الـ»نيغاتيف» أو المشهد الضائع
على أن الصورة هذه، لو أُخذت قبل عام أو عامين أو ستة أشهر، في الموضع ذاته تماماً، لَظهر فيها على الأرجح شبّان أو بنات من غزة يبتسمون أو ينشرون الغسيل أو يسيرون في مهمة عائلية أو هروباً منها، يظهرون أمام بيوتهم المنتصبة بجمالها أو قبحها، بلونها المتبدّل بين الأيام المشمسة وأيام المطر الذي يسقي جدرانها ويفيض في الحارة والشوارع الضيقة المكتظّة.
والصورة إياها، من موضعها هذا، كان يمكن أن تَلتقط الصيف الماضي أطفالاً يُمسكون بخيوط طائرات ورقية تحلّق بألوانها بعيداً عن أرض الحصار، أو مراهقين يلاحقون كرةً ليحتفلوا بهدف فيقلّدوا ميسي أو كريستيانو أو بنزيما كما يقلّدهم ملايين الأطفال حول العالم.
لكن لا هذا ولا ذاك حصل. أو ربما حصل ولم نتنبّه له لِعاديّته أو لعدم تداوله. فإذا بنا اليوم نكتشف الموضع إياه في شروطٍ غير عادية، ألغت سابقاتها وأنهت (لفترة طويلة) إمكانيات عودة الحياة وأصواتها إليه.
ننظر إلى صورةٍ إسرائيليةٍ دميمة ونقف على ما تفيضُ به من عنفٍ أصاب البيوت المُختفي شبّانها وبناتها وأطفالها وغسيلهم وطائراتهم الورقية وكرتهم واحتفالات أهدافهم.
ننظر إلى ما نظرت إليه مجنّدات وقرّرت تخليده. وننظر إلى ما نظر إليه مصوّر طموح وقرّر بدوره جعله مادة يبيعها لوكالة أنباء دولية وينشرها على حسابه في وسائل تواصل اجتماعي، فيعلّق عليها عابرون مثله، ثم يتابعون حياتهم مثلنا، في انتظار صورٍ جديدة-قديمة قادمة…
عذراً التعليقات مغلقة