لا يتسع مقال رأي للحديث عن عوامل ضعف الدولة السورية وعوامل قوتها، وإلى أين سيدفع صراع القوى المؤثرة فيها، هل يقود إلى انفراطها، أو إلى تعزيزها وترسيخها، ولا يسمح أيضا بالغوص عميقا في البحث عن جذور أزماتها وأسباب نشوئها أو في عوامل تراجعها، لكن كل هذا يجب أن لا يمنع من تناولها من جانب ما، وبتكثيف شديد.
غالبا ما تحيلني كتب الاجتماع والسياسة إلى علم الفيزياء، فأجد نفسي وكأنني أمام جملة فيزيائية يمكن فهمها بشكل أفضل إذا أخضعتها لقوانين الفيزياء، لا بل ربما تمكنني قوانين الفيزياء من فهم حركتها الراهنة واستشراف مآلاتها، ورغم أن كثيرا من نظريات علم الاجتماع والسياسة تذهب إلى القراءة بمنهجية أخرى قد تتعارض إلى حد كبير معها، باعتبار أن معطيات الجملة الفيزيائية وقواها الفاعلة يمكن تحديدها بدقة كبيرة، بينما يتعذر ذلك عند قراءة الجمل الحية التي تتغير معطياتها دائما، ووفق آليات شديدة التعقيد، ومع هذا فسوف أذهب في هذا المقال إلى الفيزياء.
في أي جملة فيزيائية هناك قوى متعددة تخضع لقوانين متعددة، وبدراسة محصلة القوى وتوزعها وعلاقاتها فيما بينها يمكن فهم مدى استقرار هذه الجملة، وبتبسيط شديد فإن في حياتنا اليومية أمثلة كثيرة عن تفاعل قوتين أساسيتين هما قوة الجذب وقوة النبذ، ومحصلة هاتين القوتين تحدد مسار الجملة كلها، وهل ستتلاشى وتتبعثر أم ستتراص على نحو أشد.
عندما نشأت سوريا كدولة لم تكن محددات الدولة واضحة تماما، لأنها نشأت بإرادة عامل خارجي، لكن لم يكن لهذه الدولة أن تقوم لولا توافر عوامل مؤسسة
يخضع أي تجمع ينضوي تحت صيغة ما، دولة أو طائفة أو نقابة أو حي.. الخ إلى جملة محددات وركائز لا بد منها لكي يتشكل هذا التجمع، وتعتبر الدولة الحديثة قمة هرم هذه التجمعات في عالمنا اليوم، ولكي تتشكل الدولة لا بد من توافر عناصرها الثلاث الأساسية وهي الشعب والإقليم والسلطة، وبالتأكيد فإن لكل من هذه العناصر معرفات ومحددات وصيغ لا يتسع المجال لتفصيلها لكن الأساس لالتقاء هذه العناصر هو الإرادة الحرة لأفراد أحرار يجدون مصلحتهم في قيام دولة تمثلهم.
عندما نشأت سوريا كدولة لم تكن محددات الدولة واضحة تماما، لأنها نشأت بإرادة عامل خارجي، لكن لم يكن لهذه الدولة أن تقوم لولا توافر عوامل مؤسسة، صحيح أن هذه العوامل تم العبث فيها كثيرا فقد تم تغيير جغرافية هذه الدولة مرارا، وبالتالي تغيرت تركيبتها السكانية، كما أنها لم تكن ذات نظم سياسية مستقرة، إلا أنه يمكن القول إن هذه الصيغة عرفت على نحو ما استقرارا يقارب القرن، وهذا ما يمكننا من الاستناد إليه لمناقشة سوريا الراهنة كدولة تمتلك عناصرها الثلاثة بوضوح.
لعل أول بدايات تشكل الهوية السورية بصيغتها الراهنة كان في ظل الاحتلال الفرنسي، أي إن معالم القضية الوطنية كمقدمة لهوية وطنية تشكلت في مواجهة الاحتلال الخارجي، وقد لا أبالغ إن قلت إن سوريا الراهنة هي نتيجة الاحتلال الفرنسي بعد “سايكس بيكو” فلو لم تحتل فرنسا سوريا لربما تشظت سوريا إلى عدة دول بعد الاستقلال عن الحكم العثماني.
أيضا من فضائل الاحتلال الفرنسي على الوطنية السورية هو فشل تجربة تقسيم سوريا إلى دويلات، وأميل إلى القناعة بأن إصرار السوريين على وحدة سوريا لم يكن ليكون بهذه القوة لو كان قرار التقسيم صادرا عن أطراف سورية، لكن الاحتلال الذي وحّد السوريين في مواجهته أعطى لهذا الرفض زخما وقوة شعبية واسعة باعتباره – أي التقسيم – قرارا صادرا عن جهة عدوة، هذا الفشل ساهم أيضا في تعزيز حضور القضية الوطنية في وعي السوريين.
لن أخوض هنا في نقاش السؤال المتداول حول توصيف من نسميهم اليوم “سوريون” هل هم شعب أم شعوب رغم أهميته، لكن السؤال الذي يحضر اليوم هو هل يمكن لهذا الشعب/ الشعوب أن يشكل / يشكلوا فعلا العنصر الأول في الحفاظ على الدولة السورية بمحدداتها الراهنة، على افتراض سلامة الحيز الجغرافي، ووجود السلطة بمعاييرها الحديثة، وهنا تحضر الفيزياء، وتحضر قوى التجاذب والتنابذ، فما الذي يجذب “السوريين” إلى التلاقي، وما الذي يدفعهم إلى الافتراق؟
بالتأكيد لا تدفع الجنسية ولا الخضوع لسلطة سياسية واحدة، ولا الشعارات والأيديولوجيا إلى اعتبار تجمع ما على أنه شعب، ما يمكن اعتباره معيارا أساسيا في إطلاق صفة شعب على تجمع سكاني في منطقة جغرافية محددة هو قوة عوامل الجذب بين أفراد هذا التجمع، ومدى قدرتها على نفي واستبعاد قوى النبذ. وعوامل الجذب متعددة لا تبدأ فقط بالمشتركات التاريخية والثقافية واللغة و..و.. ولا تنتهي بالاقتصاد والمصالح والمصير والتشارك بصناعة المستقبل، أما عوامل النبذ فهي أيضا لا تبدأ بإعلاء العصبيات ما قبل الدولة وغياب العدالة والاستبداد وضعف الاقتصاد ولا تنتهي عند التبعية للخارج وتدخله الخ.
ساهمت النخب الثقافية والفكرية في تعزيز قوى النبذ داخل المجتمع السوري، عندما أعلت أيديولوجياتها فوق حقوق فئات مجتمعية لا تتوافق مع هذه الأيديولوجيات
إذا كان الاحتلال الفرنسي عاملا من عوامل جذب السوريين نحو تبلور القضية الوطنية والهوية الوطنية، فإن مرحلة ما بعد الاستقلال كانت عامل إضعاف لها بشكل عام، إذ عمدت معظم الأنظمة التي تتالت على سوريا لإضعاف قوى الجذب، وتعزيز قوى النبذ، لأسباب متعددة أهمها هو جوهر رؤيتها للسلطة، فهي لم تر في السلطة مسؤولية وطنية ملقاة على عاتقها، بل رأتها هدفا يجب المحافظة عليه، والتمسك به مهما يكن الثمن، ولاستمرارها في السلطة كان لا بد من إضعاف المجتمع، وكلنا يعلم ماذا فعل حافظ خلال سنوات حكمه بقوى التجاذب بين السوريين فهو لم يضعفها وحسب، بل عمد إلى تحطيمها كي تصبح قوة أجهزته الأمنية قادرة على سحقها إن تشكلت مرة أخرى.
أيضا ساهمت النخب الثقافية والفكرية في تعزيز قوى النبذ داخل المجتمع السوري، عندما أعلت أيديولوجياتها فوق حقوق فئات مجتمعية لا تتوافق مع هذه الأيديولوجيات، فتناسى القوميون العرب أن هناك قوميات أخرى في سوريا، وتناسى الإسلامويون أن هناك سوريين من أديان أخرى.. و..و..الخ.
عندما تتعرض أي جملة فيزيائية لصدمة ما، فإن نتائج صدمها ستكون مرهونة بعاملين أساسيين هما قوة الصدمة من جهة، وقوة تماسك بنيتها من جهة معاكسة، وتتحدد قوة تماسكها بقوة قوى الجذب بين أجزائها، هذا يفسر إلى حد كبير كيف تشظى المجتمع السوري باكرا بينما بقيت كتلة أجهزة الأمن متماسكة.
هل أبدو متشائما إن قلت بأن قوى جذب السوريين هي اليوم في أضعف حالاتها، وأن قوى النبذ أقوى بكثير، وأن التاريخ يعيد نفسه تماما على نحو فاجع، وهل علينا أن ننتظر عاملا خارجيا يتيح فرصة أخرى لنبني سوريا التي نشتهي؟
Sorry Comments are closed