أسئلة صعبة في استشراف المستقبل وانعكاس أزمات الإقليم على سوريا

زكي الدروبي10 فبراير 2024آخر تحديث :
أسئلة صعبة في استشراف المستقبل وانعكاس أزمات الإقليم على سوريا

تسعى الولايات المتحدة بجهد لتفادي امتداد نيران الحرب خارج غزة، وقد فعلت هذا باستعراض قوة في بداية المعارك، وفهم الجميع ما قالته، لكن للعبة أوجه أخرى، فإيران تسعى للحفاظ على وجودها وما حصلته من امتيازات خلال السنوات الطويلة الماضية، والتي دفعت ثمنه دما وشخصيات بارزة من نظامها، لهذا تحاول ما أمكنها ذلك لتجبر إسرائيل للوقوف عند حد ما، ولا تتوسع في ردود فعلها على ما حصل في 7 أكتوبر لتقطع أذرعها الموجودة في المحيط الإقليمي.

لا بأس من التذكير بأن إدارة أوباما سمحت لإيران بالتمدد خارج حدودها من أجل الوصول إلى صفقة النووي، وبأن الأخيرة تسعى من كل ذلك لتكون الدولة المهيمنة في المنطقة، صاحبة النفوذ الأكبر، وصاحبة القرار فيها، لتكون إمبراطورية “إقليمية” تترك لها تسيير شؤون المنطقة دون تدخل من أي أحد خارجها، لهذا نراها تستخدم الأراضي اليمنية، والعراقية، والسورية، واللبنانية في صراعها – بذريعة دعم القضية الفلسطينية – من أجل تعزيز نفوذها الإقليمي، وانتزاع اعتراف بقوتها، وحرية قرارها في المنطقة، واعتبار الإقليم المحيط فيها، مجالاً حيوياً لها تفعل به ما تشاء.

تتبع إدارة بايدن سياسة الرد البسيط المحدود المتدرج في تصاعد القوة ببطء شديد، تجاه أفعال أذرع إيران في المنطقة

في المقابل نجد إدارة بايدن ولأسباب مختلفة – منها خشيتها من وقوع إيران في حضن روسيا أو الصين بشكل كامل، ومنها أيضاً اقتراب الانتخابات الرئاسية، وأسباب أخرى عديدة لا مجال لتعدادها هنا – لا ترغب في توجيه ضربة قوية حقيقية لإيران، أو تجتث أياً من أذرعها في المنطقة بشكل نهائي، ويبدو أنها أي إدارة بايدن تعمل ضمن ردات الفعل على أظافر إيران، بخلاف ما تعمل عليه إسرائيل، التي تتوجه بشكل كامل سواء عبر الاغتيالات المتواترة، أو الضغط والتهديد بفتح جبهات أخرى، واستمرارها بحرب الإبادة على الفلسطينيين في غزة بهدف السيطرة بشكل كامل عليها، والقضاء بشكل كامل، أو إجبار قيادة حماس والجهاد الإسلامي على مغادرة القطاع بشكل نهائي، ثم ستتابعهم هي باستخباراتها وتغتالهم واحداً تلو الآخر خلال السنوات القادمة كما فعلت مع كل من له علاقة بعملية ميونخ 5 أيلول 1972 سابقاً.

تتبع إدارة بايدن سياسة الرد البسيط المحدود المتدرج في تصاعد القوة ببطء شديد، تجاه أفعال أذرع إيران في المنطقة، فمنذ 18 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تعرضت القواعد العسكرية الأميركية في العراق وسوريا لأكثر من أكثر من 150 هجوماً حتى 22/1/2024 بحسب إحصائية للبنتاغون بالصواريخ، وبالطائرات المسيرة من قبل ميليشيات عراقية مدعومة إيرانياً، رداً على دعم الولايات المتحدة لإسرائيل في حرب الأخيرة على قطاع غزة، وكان علينا أن ننتظر حتى 26 تشرين الأول/أكتوبر 2023 لنرى رداً أميركياً على هذه الاعتداءات ضمن الأراضي السورية، إذ أعلنت وزارة الدفاع الأميركية أنها ردت على الهجمات بقصف منشآت تخزين الأسلحة والذخائر المستخدمة من الميليشيات الإيرانية في البوكمال بسوريا.

ثم كان علينا أن ننتظر حتى 21 تشرين الثاني/نوفمبر2023، كي تبدأ الولايات المتحدة الأميركية في الرد على الميليشيات التابعة لإيران ضمن العراق نفسه، عبر استهداف عدد من أفراد ميليشيا كتائب حزب الله، أثناء قيامهم بشن هجوم صاروخي على قاعدة الأسد الجوية وسط العراق، وفي اليوم التالي استهدفت القوات الأميركية موقعاً للحشد الشعبي في منطقة جرف الصخر جنوب العاصمة العراقية بغداد بعد شنّ 66 هجوماً على قواعد أميركية في العراق وسوريا منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.

واستمرت على هذا النحو، بالرد على الضربات الموجهة لها في العراق وسوريا أولاً بأول، مع استهداف المسؤول العسكري لحركة النجباء، مشتاق طالب علي السعيدي الملقب بـ”أبو تقوى” في أول ردة فعل على هذا المستوى، ومع ذلك لم ترتدع هذه الميليشيات، واستمرت بتوجيه صواريخها وطائراتها المسيرة على القواعد الأميركية في العراق وسوريا، لا بل دخلت في معادلة جديدة عبر استخدام الصواريخ الباليستية، وهي سلاح استراتيجي لا يوجد حتى لدى الجيش العراقي، وهذا يؤكد على الدعم والتمويل التي تتلقاه هذه الميليشيات – من المفترض أن يأتي تسليحها من قيادة الجيش العراقي – من قبل إيران. كما قصفت هذه الميليشيا أيضاً ميناء حيفا وسط إسرائيل بصاروخ كروز معدل بعيد المدى.

في اليمن، عملت ميليشيا الحوثي على توجيه صواريخ ومسيرات على طول البحر الأحمر باتجاه إسرائيل، ووقع بعض منها في الأراضي المصرية، والأخرى في الأردن، ثم ما لبثت أن أعلنت عن استهدافها للسفن التي ترتبط بشكل أو بآخر مع إسرائيل، لكن استهدافاتها لم تقتصر فقط على المصالح الإسرائيلية، بل توسعت لتشمل الكثير من السفن الأخرى غير المرتبطة بأي شكل من الأشكال مع إسرائيل، وبالتدقيق وجدت أنه لم يتم استهداف أي سفينة مملوكة للصين، حتى لو كانت متجهة لإسرائيل، وهذا ما يثير الشكوك بأن هناك اتفاقاً ضمنياً صينياً إيرانياً بعدم اقتراب الحوثيين من القوارب الصينية.

اتبعت إدارة بايدن النهج نفسه، لمواجهة أخطار الحوثي على الملاحة الدولية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر، وترددت طويلاً قبل أن تشكل تحالف حارس الازدهار، واقتصرت مهامه على الأعمال الدفاعية ومرافقة السفن التجارية وحمايتها من القصف الحوثي، ثم تطور الرد الأميركي بقصف محدود لمواقع حوثية، ثم أصبح الأمر سجالاً، كما في العراق، يقصف الحوثي لترد أميركا، ولن يستطيع – كما تؤكد لنا جميع التجارب – القصف الجوي إزالة هذه المخاطر، ولم يمنع الحوثي من استمرار اعتداءاته على سلامة خطوط الملاحة الدولية.

لا بل أكثر من ذلك، فقد نقل موقع rybar force الروسي عن المكتب الصحفي لحزب الله، أن الحوثيين يدرسون خيار إغلاق ثلاثة طرق بحرية تسمى “مثلث الأقصى”: قناة السويس، ومضيق باب المندب، ومضيق هرمز، الأمر الذي من شأنه أن يضرب بشكل كبير اقتصادات عدة دول.

ولا توجد دولة  في المنطقة ترغب بالمشاركة في هذه المعارك، وإرسال قوات لأسباب عديدة، أهمها عدم الثقة بالشريك الأميركي الساعي لاسترضاء إيران على حساب شركائها الاستراتيجيين التقليديين مثل المملكة العربية السعودية، والتي لطالما حذرت من خطر الميليشيات الحوثية على أمن واستقرار المنطقة، دون أن تكون هناك أذن صاغية أميركية لهذه التحذيرات، لا بل إن إدارة بايدن سحبت الدفاعات الجوية الأميركية من السعودية، بعد أن تركت إدارة أوباما المنطقة لقمة سائغة لدى الإيرانيين قبلها، لتخون الإدارة الأميركية بهذا الأمر أقدم حليف استراتيجي لها في المنطقة.

كما قام الحرس الثوري الإيراني باستهداف السفينتين الإسرائيليتين في المحيط الهندي في الرابع من شهر كانون الثاني/يناير الحالي، كما نقلت قناة الميادين، وقامت إيران باختطاف سفينة يونانية تحمل نفطاً عراقياً من الخليج العربي.

استراتيجية تمدد إيران، وهيمنتها على المنطقة، مستخدمة ذرائع مختلفة كنصرة المظلومين، وقضية فلسطين قديمة، وأشار إليها الكثير من السياسيين والباحثين، لكن الإدارات الديمقراطية الأميركية صمت آذانها عن الاستماع – ولا تزال – رغم كل الشواهد على أنها – أي إيران – مهددة لاستقرار وأمن المنطقة، والعالم أجمع.

لقد قالها بصراحة وزير الدفاع الإيراني، العميد محمد رضا أشتياني، إن “البحر الأحمر يعتبر جزءاً من منطقة إيران، وبالتأكيد لا يمكن لأحد أن يناور في المنطقة التي نسيطر عليها”، فهل بعد هذا القول قول آخر؟

كما هدد الجنرال محمد رضا نقدي، مساعد قائد الحرس الثوري للشؤون التنسيقية، بإغلاق البحر المتوسط في حال استمرار الحرب على غزة، ويعتقد على نطاق واسع أن جبهة البوليساروا المدعومة جزائرياً وإيرانياً هي الأصابع الخفية لإيران في منطقة المغرب العربي.

برأيي لقد استطاعت إيران ترسيخ نفوذها الإقليمي والهيمنة على المساحات البحرية بشكل مباشر كالسيطرة على مضيق هرمز، أو الاعتداء على خطوط الملاحة في بحر العرب شرقاً، أو بشكل غير مباشر من خلال قوى محلية تستخدم نقاطاً يصعب القضاء عليها بشكل نهائي، لامتلاكها جغرافيا مميزة كاليمن أو البوليساريو في الصحراء المغربية، وهكذا تسيطر على البحار المهمة لحركة التجارة العالمية، دون أن تمتلك الأساطيل الضخمة، وتستنزف القوى العالمية بسلاح بدائي بسيط غير مكلف مالياً، ودماء أناس يرغبون بالموت أكثر من رغبتهم بالحياة، ولا يملكون أرصدة مالية في البنوك الخارجية، ولا يهمهم حياة شعبهم ولا كيف يعيش، وبهذا نرى تطبيقاً لنظرية الأدميرال الأميركي ألفرد ماهان “المجد للقوة البحرية” بطريقة ذكية، وبنفس الوقت طبقت نظرية بريجنسكي الذي صرح في الثمانينيات من القرن الماضي بأن حروب المستقبل هي حروب غاز وإطلالات بحرية من خلال ما تفعله في البحر الأحمر وتهديد المتوسط، ومن خلال التهديد الأخير للفصائل العراقية بأنها “ستبدأ الإطباق على الملاحة البحرية الصهيونية في المتوسط”.

الشريان الإيراني عبر العراق وسوريا إلى حزب الله والجولان سيتم قطعه لا محالة، إن لم تتدخل الولايات المتحدة الأميركية وتمنع هذا، كما فعلت إدارة أوباما التي سمحت لإيران بالتمدد في المنطقة رغماً عن اعتراضات إسرائيل، والمملكة العربية السعودية

وهنا ننظر للحلف المتشكل من إيران والصين وروسيا الذي حذر منه بريجنسكي وقد كانت السياسات الأميركية دائماً تعمل على احتواء الصين وإبعادها عن روسيا إلى أن أتى بايدن ليترك لإيران فرصة اللعب بالمنطقة لصالح الصين وروسيا، ويعلن الحرب عليهما (الصين وروسيا) من خلال أوكرانيا وتايوان والحصار التجاري الي تسعى الولايات المتحدة لفرضه على الصين.

بالنظر إلينا في سوريا، فإن إسرائيل ساعية عبر التجزئة والتطويق والحصار ومن ثم التصفية إلى إنهاء السيطرة على قطاع غزة، مهما كلفها ذلك الأمر، وبالتالي فإنها لن تسمح ب 7 أكتوبر ثانية من الشمال (حزب الله) أو الشمال الشرقي (الجولان)، وهذا يعني بأن الشريان الإيراني عبر العراق وسوريا إلى حزب الله والجولان سيتم قطعه لا محالة، إن لم تتدخل الولايات المتحدة الأميركية وتمنع هذا، كما فعلت إدارة أوباما التي سمحت لإيران بالتمدد في المنطقة رغماً عن اعتراضات إسرائيل، والمملكة العربية السعودية.

وهنا ماذا ستكون ردة فعل إيران؟ هل ستسعى لإيجاد شريان آخر، قد يكون في أقصى الشمال على الحدود مع تركيا من خلال وكلائها (بي واي دي وبي كي كي) وهذا سيجعلها تصطدم لا محالة مع تركيا، أم تستسلم للحصار المفروض عليها من قبل إسرائيل؟

 لقد عودتنا جغرافية وتاريخ المنطقة بأن هضبة فارس تمتلك أهمية استراتيجية قصوى تستطيع من خلالها الهيمنة على العراق وسوريا “بلاد الشام” وصولاً للأناضول في ظل غياب القوة الموجودة في الأناضول، والتي إن تحالفت مع الجنوب (بلاد الشام) فسوف تستطيع سحق هضبة فارس وإذلال سلطانها كما فعل أذينة ملك العرب في تدمر بيوم من الأيام، فهل ستصحو القيادة التركية من أوهام التفوق العنصري التركي على شركائها التاريخيين (الشاميين) ومن صراعاتها المحدودة بالداخل حول كرسي انتخابي في هذه البلدية أو تلك، وترتقي لتفكر بشكل استراتيجي وتدرأ عن نفسها خطراً يهدد وجودها كلياً؟

المصدر تلفزيون سوريا
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل