لا ينتظر سائقو التكسي في “مصر” وهي التسمية الشعبية للقاهرة، حتى يبادروك بالسؤال: “عاجبك اللي بيحصل بغزة يا أستاذ”، هكذا من دون مقدمات، ودون التفات للانتخابات الرئاسية التي تجري في بلدهم. وهذه الصيغة في السؤال وفقاً للهجة المصرية تعني غضباً ومشاركة في الحديث وتذمراً بصيغة مصرية محببة، وأن الموضوع سيكون هو الثيمة الرئيسية للحديث في ذلك المشوار.
تقول لنفسك: سمعنا رأي كثير من الكتاب، والمحللين والمحترفين، فما المانع أن نسمع وجهة نظر فئة شعبية بما يحدث. لا ينتظر السائق اللطيف أبو ياسر، بعد أن يستأذنك في ارتشاف سيكارة من دخان، مهمته الرئيسية أن يهيِّض ذلك الألم الهاجع في صدره، فيقطع جمله المتتالية بسعال شرقي خاص لم تسمعه منذ أن أخذك الحدث السوري إلى هناك حيث مهجرك الجديد. وهو سعال خاص بتلك المدن الملوثة، التي ستنهار إنْ فكرتْ بإيجاد حل لتلوثها، كأن التلوث غدا جزءاً من وجودها وتاريخها.
يبدأ معك السائق السبعيني بالحديث عن أنه سمى ابنه ياسر، حباً بياسر عرفات “الستينات والسبعينات” وليس ياسر عرفات “التسعينات”، وأن ابنه يغلِّبه بكثرة تحولاته. ويتابع بعد أن يشتم السائق الذي مال على سيارته كثيراً، ليتذكر عدداً من المساجين المصريين المحسوبين على اتجاهات دينية، فيؤكد لك أنه بحديثه هذا لا يعنيه الاتجاه السياسي المسيطر في غزة، بل يعنيه أن جزءاً من تلك الجغرافيا العربية تقتل ونحن نتفرج عبر بث مباشر!
في بحثك معه عن الأسباب، يسرد لك الحكاية، والحكاية عند أبي ياسر هي ليست أقل من: “قلة هيبة” لو بقي عندنا ذرة كرامة لما حدث ما حدث! ويسهب في تحليله مستحضراً أسماء عدد من الرؤساء العرب الذين أقيلوا أو توفوا أو قتلوا في القرن الحادي والعشرين: كانوا يعرفون كيف يلعبون مع أميركا! “الولاد دول ما يعرفوش يلعبوا”.
ينظر إلى صورة معلقة مكررة، كبيرة الحجم على طرفي الطريق، فيسألك غير منتظر جوابك: “بربك يا أستاذ دول فيهم هيبة رئيس؟ والله الواحد منهم، لو خطب بنتي ما جوزتوهاش”، ثم يستعيد قدرته المصرية على السخرية اللحظية بالقول: الحمد لله ما عنديش بنات!
يتحول الحديث مع أبي ياسر إلى أن المشكلة هي في العسكر، العسكر خربوا السياسة في العالم العربي، ويذكر لك أمثلة كثيرة
من دون مقدمات يقف السائق فجأة عند محطة بنزين، متذمراً من سعره المتزايد، فتتساءل: لكن سعره حالياً في مصر أرخص من أي مكان في العالم، فهو أقل من ربع دولار! فيجيبك: الدولار كان أيام العهد الملكي يساوي أربعة دولارات!
يتحول الحديث مع أبي ياسر إلى أن المشكلة هي في العسكر، العسكر خربوا السياسة في العالم العربي، ويذكر لك أمثلة كثيرة، وبعد أن تتفق مع فكرته بطريقة أو بأخرى، تكاد أن تطرح له على سبيل النقاش والإغناء أفكاراً عن المتغيرات الاقتصادية، والتحولات، والمقارنات. غير أنك في لحظة ما تقول: هذا الرجل مرتاح كثيراً مع يقينه. فلِمَ تزعجه بأسئلتك؟ سيموت هذا الرجل من دون ذلك اليقين الذي يعيش فيه! أسباب بقاء أبي ياسر على قيد الحياة قليلة، يكفي أنه يقضي نهاره في سيارة متهالكة، وكل دقيقة يكاد ينجو من حادثة مميتة قد تقوده للوقوع من أحد جسور القاهرة!
يستعرض أبو ياسر تاريخ القاهرة، فيقول لك: قاهرة القرن الحادي والعشرين، هي الأسوأ! ويعدد لك أسبابه. تتبادلان الحديث عن التحولات العمرانية والتخطيط الحضري الذي أنشأ أحد أكبر أسواق العقار في العالم، حيث يعيش عدد من الملايين في توسعاتها الجديدة عبر منطقة الشيخ زايد والرحاب ومدينتي والعاصمة الإدارية الجديدة والتجمعات الخامس والسادس ومدينة المستقبل.
غير أن مرورك أمام مقهى أم كلثوم في الزمالك يكون فرصة للحديث عن القاهرة أيام زمان، أيام كوبري عباس وجاردن سيتي ورمسيس والزمالك والمهندسين والمنيل والمعادي وخان الخليلي والفيشاوي.
مع أبي ياسر أو سواه تتبادلان الحديث عن نقل الجامعة الأميركية مقرها إلى القاهرة الجديدة، وأنها نقلته من ساحة التحرير بعد مئة سنة تقريباً من إنشائها، ووفقاً لذلك السائق فإن نقل المقر له دلالاته السياسية، ثم يتابع الحديث عن أثرها التنموي في الأحياء التي تنتقل إليها، بل تصبح المسافة بينها وبين أي مبنى أحد عوامل قيمته السوقية، ويتابع السائق فيما يشبه، استطلاع رأي شعبي مصري، ولا ينتظر إجابتك عبر صيغة سؤال توكيدي: “بيرضيك كده يا أستاذ” الجامعة الأميركية هي الأصل وبدلاً من أن نصف مكان بأنه يقع في طلعت حرب أو مصطفى كامل أو طه حسين تصبح الجامعة الأميركية هي العنوان!
نحو عشرين سائق تكسي، نقلوني في الأيام الماضية بين أحياء القاهرة، كان الشأن السياسي هو منطلق الحديث معهم، وتصل ارتدادات ذلك الحديث عن “الغلابة” والأمراض وأميركا وإسرائيل. يبدو سائقو التكسي كما وصفهم خالد الخميسي قبل 18 عاماً في كتابه المميز “تاكسي.. حواديث المشاوير” كأنهم تاريخ آخر للمدينة، لا يقل، فيما أرى، قيمة عن تاريخ العمارة أو سواه، إذ يلخص كل منهم زوايا مظلمة من المدينة، أو حكاية من حكاياها المجهولة حيث تشكل سردياتهم اليومية مع الركاب ألف ليلة وليلة مصرية، عبر أكبر سردية لا تزال حية في تاريخ البشرية، مفتوحة على النمو السردي، عبر صفحات تفتح كل لحظة. ويشكلون بفعلهم السردي ذلك متعة إضافية للسفر إلى القاهرة، من الصعب أن تجده في عاصمة أخرى.
لدى كثير من أولئك السائقين معجم من الشتائم، يحتاج إلى تدوين من وجهة نظر الباحثين في سوسيولوجيا الحياة اليومية للأفراد، غير أنه من وجهة نظر أخرى، قد يقتله التدوين، وليس له من داع، يكفي أن تركب معهم يومياً وتسهم في كتابته، أو سرده، أو الاستمتاع به، حيث عليك أن تصغي لهم، كأن شوارع القاهرة ضاقت بهم، بل إن الحياة كلها ضاقت بهم، فباتوا يخففون عن ضغوطات الحياة بذلك السرد الذي لا ينتهي.
تتساءل إنسانياً: كيف تمكن التهميش من ذلك الإنسان وحفر في أعماقه وصار جزءاً من وجوده وهويته بحيث أنه يشعر نفسه أنه “لا شيء، ولا قيمة لرأيه”!
تسأل أحدهم: ألا يخاف من كم الشتائم التي وجهها للانتخابات أو للرئيس أو ذاك، وأنت تدرك أن الشتائم جزء رئيس من اللهجة والحياة المصرية. فيجيبك بلغة حاسمة: أنهم لن يستطيعوا أن يسجنوا الجميع وأنه لا يعني شيئاً بالنسبة لهم!
تتساءل إنسانياً: كيف تمكن التهميش من ذلك الإنسان وحفر في أعماقه وصار جزءاً من وجوده وهويته بحيث إنه يشعر نفسه أنه “لا شيء، ولا قيمة لرأيه”!
يرى سائق آخر أن قوة البلدان العربية مرتبطة بقوة عملاتها أمام الدولار وأنه كلما تضاءلت قيمة عملة بلد ما أمام الدولار يعني أنه لم يعد لها من وزن على المستوى السياسي؟
فيما يتجاهل سائق آخر الحديث معك، حين تمران في ساحة التحرير قولك: هنا بدأت الحكاية! بل يتابع عبر مذياعه المتهالك، البحث عن أغنية إلى أن يجد صوت أم كلثوم ينشد كلمات نزار قباني: من يوم أن حملتُ بندقيتي صارت فلسطين على أمتار!
يتمُّ سائق التكسي شطراً للحكاية لم يقله نزار: من يوم أن تخليتُ عن بندقيتي، صارت فلسطين على كيلومترات كثيرة!
يمضي ذلك السائق بسرعة، من دون وداع يليق بتلك الأحاديث الكثيرة التي تبادلتماها معاً، لكنه يتوقف فجأة، ثم يعود بسيارته المتهالكة إلى الخلف، يطلب منك أن تدون رقمه: زيرو واحد زيرو اتنين….!
تتساءل كيف استطاعت اللهجة المصرية تكييف عدد كبير من مفردات اللغة الإنكليزية لتصبح جزءاً منها. وفيما تنطلق سحابة دخان خلفه، في أكبر متحف سيارات مفتوح في العالم، حيث تجاوز عداد سيارته المليون كيلومتر، بقيت كلماته تتناثر خلفه، وقد جعلها لازمة بين مقطع ومقطع طوال الرحلة، خاصة حين يرى لوحة لمطعم سوري: السوريين أجدع ناس، نورتو مصر يا بيه، إحنا وانتو واحد. فرحة عيالي كبيرة لمن أخذهم على مطعم سوري!
ثم يتذكر وجعه المعيشي فيصرخ: يا باشا سواقة التكاسي باظت” بعد ما فاتت عليها أميركا وفوتت علينا تطبيق “أوبر” ده بيقولوا: وكيلهم هنا في مصر ابن ضابط كبير قوي، قوي يا بيه! عارف حضرتك ليه أنا ما بحبش العسكر، عشان العسكر عاوزين يبلعوا كل حاجة، كل حاجة يا باشا!
Sorry Comments are closed