سوريا.. واحتمالات التطرف!

مؤيد اسكيف22 أكتوبر 2023آخر تحديث :
سوريا.. واحتمالات التطرف!

من موقع الجغرافيا السورية يمكن القول إنَّه يوجد أوجه تشابه مع مكوناتها الاجتماعية والجذور التاريخية لها، وأسّس هذا الموقع للشخصية السورية وتركيبتها النفسية، وحفر عميقاً في بنية الإنسان الذي يسكن هذه المنطقة الجغرافية التي تسمّى بلاد الشام أو شرق المتوسط، وقد انعكست الخصائص “المتطرفة” لهذا الموقع على طبيعة وسلوك العنصر البشري الذي يعيش فيه، وربّما نشهد حالياً أحد أطوار الذروة التاريخية المتكررة دوماً في هذه الجغرافية “الخطرة جيوسياسياً”.

 تتميّز الجغرافية السورية بالتباين الحاد في التضاريس والبيئات المناخية ما بين مناطق جبلية عالية، ووديان وسهول وبوادي صحراوية قاحلة، وما يترتب على ذلك من تنوّع في كميات الأمطار على مستوى المكان أو على مدار الزمان، موجات من الجفاف وشح في الأمطار وندرة المياه، أو عواصف ماطرة وثلجية وسيول وفيضانات.

وهذا كلّه يُسهم بشكلٍ حاسمٍ في اختلاف أنماط العيش لدى هذه المجتمعات التي تسكن هذه المناطق المتباينة، وينعكس على نمط بنيانها النفسي والاجتماعي، كما أنَّ التباين في المكان الواحد يترك أثره في نمط التفكير والسلوك ضمن الجماعة الواحدة. تعتبر منطقة البحر الميت كأخفض نقطة عن سطح البحر على مستوى العالم لتصل حتى نحو 400م تحت سطح البحر، بينما إلى الشمال منها بعشرات الكيلو مترات يتربع جبل حرمون ليصل ارتفاعه إلى 2860م فوق مستوى سطح البحر.

تقع الجغرافية السورية في منطقة نشطة زلزالياً وهذا ما يجعل من الكوارث الطبيعية لاسيّما الزلازل حدثاً متكرراً يُعاني منه سكان المنطقة، حيث تقع سوريا على أكثر من خط زلزالي لاسيّما الفالق العظيم النشط، والذي تسبّب بموت الملايين وشرّد مثلهم، ودمّر مدن بأكملها عبر التاريخ، ومن تلك الكوارث الزلزالية الكبرى التي حدثت قبل أكثر من مئة وخمسين عاماً في المدن الواقعة على امتداد هذا الفالق. وآخرها كان في شهر شباط من العام الحالي حيث دُمّرت مدينة انطاكيا والعديد من الحواضر والقرى المجاورة ضمن الأراضي السورية.

الحدود الطبيعية التي تُعطي للشرق الأوسط استقلاليته الجغرافية، لم تكن لتمنع غزوات المعتدين، وهذا ما ساهم بشكل أساسي في أن يحفل تاريخ المنطقة بعدد يصعب حصره من الغزاة والغزوات، فصارت البلاد ساحة حرب لأمم وأقوام أخرى مجاورة وبعيدة، وإن كانت كلّ بلاد العالم وشعوبها خاضت حروباً عبر تاريخها إلا إنَّه لا يمكن المقارنة بما مرّ على هذه الأرض التي تظهر آثار حروب التاريخ في سلوكيات أبنائها وأشكالهم ومذاهبهم وثقافاتهم ونمط حياتهم ومقولاتهم وطرازهم المعماري وموقفهم العام من الحياة.

وبطبيعة الحال لم تكن هذه الجغرافية بمعزل عما يحيط بها من أحداث وتطورات وكوارث، فكانت ملجأ على الدوام كما كانت في الوقت نفسه مسرحاً للهجرات البشرية، لذلك فهي تحفل بخليط جيني وعرقي.

تحفل هذه الجغرافيا بمسرح للأحداث الدينية وما نتج عنها من تطور حضاري أو من انقسامات عقيدية أو مذهبية لتنتج فيما بعد حروبها وصراعاتها الخاصة، والتي سُفكت فيها الكثير من الدماء بدءاً من الصراع اليهودي مع كل ما يجاوره، مروراً بانقسامات الكنيسة السورية، وصولاً إلى “صفين” التي نعيش أحداثها إلى اليوم بشكل مكرر ومبتذل.

ربّما عاشت الكثير من الشعوب ظروفاً مشابهة عبر التاريخ، لكنّها لم تبلغ هذا المستوى من تعدّد أنواع الصراع وكثافته وهذا الحدّ من تكرارها وهذه الدرجة من التداخل والتناقض بين شعوب المنطقة، كما حدث ويحدث على الأرض السورية.

كانت سوريا وما تزال “متباينة” في خياراتها التي تفرضها على سكانها، طور من الاستقرار النسبي في مدينة ما، غالباً ما يبلغ ذروته بمرحلة جديدة تتمثل في هدم كل ما قام هذا الإنسان ببنائه، “تدمرتا” وهو الاسم الآرامي الذي يعني “المعجزة” لمدينة تدمر في وسط البادية السورية لم يكتب لها الاستمرار، لتؤثر أكثر في محيطها السوري، ولتشكّل حكماً مركزياً مستقلاً، أو منارة للإشعاع الحضاري تحصد الأجيال اللاحقة ثماره، وكانت نهاية تدمر هي نتيجة للمنافسة الشرسة بين الامبراطوريتين الرومانية والفارسية للاستحواذ عليها، كما لم يكتب لمدينة مثل “إيبلا” أن تعمر طويلاً بحيث يُسهم استقرارها وديمومتها في تراكم الخبرات البشرية في السياسة والابتكار والفن والأدب، ومثلها مملكة آلالاخ وأوغاريت وغيرها الكثير.

أما المدن المركزية والقائمة حتى الآن مثل دمشق وحلب وبغداد فقد أنهكتها الحروب والغزوات والحرائق، والكوارث الطبيعية والانقسامات الاجتماعية والمذهبية. فمدينة مثل حلب كانت قد دُمّرت مرات عدة كلياً ومرات عديدة جزئياً فضلاً عن الحرائق، وفيها حي اسمه حي “الصغار” حيث تم تجميع الأطفال الذين تم قتل أهاليهم فيه إبان الغزو المغولي الذي قضى على غالبية سكان المدينة.

وبالرغم من أنَّ سنوات الاستقرار في بلاد الشام أنتجت حضارة استثنائية لاسيّما في المرحلة الإسلامية المبكرة في زمن الخلافة الأموية، إلا إنَّ هذه الفترات أيضاً كانت مليئة بالحروب التي أنهكت سكان هذه المدن، ودمرت على الدوام إرثهم الحضاري وثمرات استقرارهم وازدهارهم.

حتى في عهد الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر “على سبيل المثال لا الحصر” حيث يفترض أن الحكم فيها لم يتعرض لهزات عنيفة شبيهة بفترة الحروب الصليبية أو ما قام به المغول، إلا إنَّ تلك الفترة لم تكن مستقرّة بالشكل الكافي في الأرض السورية على عكس ما أوحى لنا به التأريخ المدرسي الذي لم يتعرض مثلاً لطبيعة الحروب والغزوات التي كانت تعيش فصولها مدينة دمشق وما حولها قبل نحو مئتين وخمسين عاماً، فقد كانت مدينة دمشق على يد ولاتها تخوض حروباً عدة داخلية وخارجية  وعلى مدى عقود من الزمن، وتتنوّع هذه الحروب ما بين غزوات البدو وقتالهم حتى بادية الشام إلى محاربة “الدروز”، وبعض القبائل في شمال فلسطين وشرقي الأردن، إضافة إلى الحروب وعدم الاستقرار السياسي داخل مدينة دمشق نفسها حيث كانت الانكشارية وتحزباتها السياسية أحد تجليات هذه القلاقل، حتى أن حيّاً بأكمله تم تدميره في مدينة دمشق على يد أحد ولاتها كما حصل في حي الميدان في أواسط القرن الثامن عشر، وهذا كله موثق في مذكرات البديري الحلاق في كتابه أحداث دمشق اليومية وفي كتاب كشف اللثام عن نكبات الشام وغيرهما.

سوريا “الخيارات المتباينة” فرضت الكثير من التحديات على عنصرها البشري عبر التاريخ، ونشهد ذلك يومياً في مجريات أحداثنا الحالية، والتدليل على تلك التناقضات المتطرفة ليس عسيراً، ويمكن تتبعه مثلاً في خروج المتظاهرين السوريين متبنين للسلمية، عراة الصدور “مسيحاً” بمواجهة الدبابات وجماعات القتل التشبيحية التي كانت تهتف “الأسد أو نحرق البلد”.

ولأنَّ الخيارات المتطرفة تفرض نفسها دوماً تحوّل السلميون إلى السلاح وما نتج عن ذلك لاحقاً من تغيّرات في المشهد السوري مابين “إما أنا تكون شيعياً” أو على النقيض من ذلك في حالة تكثيف لمضمون “صفين” التي تفرض نفسها علينا بقوة حتى الآن.

وصفين هذه ليست مقياساً للتطرف لأنَّها بين نقيضين فقط، بل لأنَّها النقيض بحدّ ذاته، أيضاً حيث يقتل في هذه المعركة نحو سبعين ألفاً من الطرفين ثم في نهاية المعركة يدعو كلاً من قائدي الجيشين (الإمام علي والخليفة معاوية) بعضهما توددا للإمامة في صلاة الجنازة على من قتلوا في ذات الحرب، فنظل عالقين في أتون هذه الخيارات المتطرفة: إما أن تكون معي أو تقتل، أو الأسد أو نحرق البلد، إما تهتف باسمي أو عاقبتك الموت، إما أن تكون قابيلاً أو هابيلاً، إما نحن أو “الآخرون”، إلى الدرجة التي يختلط فيها “نحن” بـ”الآخرين” في هذه الأرض المتباينة الحبلى باحتمالات التطرف.. فهل نحن الآخرون!

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل