مسيرة التفاهمات الروسية التركية على الأرض السورية ومستقبلها

فريق التحرير16 يوليو 2023آخر تحديث :
منهل باريش
دورية عسكرية روسية- تركية مشتركة في بلدة الدرباسية بمحافظة الحسكة شمال شرق سوريا، AP

لا تزال الخروقات مستمرة لاتفاق وقف إطلاق النار في مناطق «خفض التصعيد» في إدلب، والمتفق عليها في مسار «أستانة» السياسي الذي ترعاه كل من روسيا وتركيا وبحضور إيراني، وكان آخرها قصف قوات النظام بلدة البارة في جبل الزاوية، ما أسفر عن مقتل شخص وإصابة ثلاثة أطفال بجراح.
إن اتفاق «خفض التصعيد» المدعم بمذكرة تفاهم بين أنقرة وموسكو، لتعزيز وقف إطلاق النار ابرمت في أيلول (سبتمبر) 2018 والتي جاءت بعد سلسلة اجتماعات لأطراف أستانة في عام 2017 تتعرض في الآونة الأخيرة لتهديد من الممكن أن يفتح بابا جديدا للصراع بين قوات النظام المنتشرة في جنوب وجنوب شرق محافظة إدلب، وبين هيئة تحرير الشام التي تسيطر على المناطق «المحررة» من المحافظة، والممتدة من جبل الزاوية جنوبا وجسر الشغور غربا حتى الحدود السورية-التركية شمالاً.
وعلى الرغم من اتفاق لاحق بين روسيا وتركيا في آذار (مارس) 2020 لوقف إطلاق النار والمعروفة باسم «اتفاقية موسكو» إلا أن خطوط التماس بين الطرفين تشهد منذ 20 حزيران (يونيو) الماضي، والذي تزامن مع انعقاد قمة «أستانة 20» تصعيداً في عمليات القصف المتبادل بين قوات النظام من جهة، و«غرفة عمليات الفتح المبين» التي تقودها هيئة «تحرير الشام» من جهة أخرى. الأمر الذي يرجعه كثيرون لمحاولة أطراف «أستانة» إبراز نقاط تحكمهم على الأرض، ومدى تأثيرهم على الاتفاق، إلا أن عمق الصراع بين الأطراف الميدانية من جهة، والإقليمية والدولية من جهة أخرى، هو ما يعكسه التصعيد الأخير، والذي يمكن ان يحول منطقة «خفض التصعيد» الرابعة في إدلب وجوارها لساحة تنافس وإبراز نقاط القوة بين كل من روسيا وتركيا، وبشكلٍ خاص التغيرات في طبيعة العلاقات بين الطرفين بعد الانتخابات التركية، بالإضافة لتأثير شراكة كل من أنقرة وموسكو في صياغة الوضع الراهن في إدلب ويضاف إليها الاستفادة من الهزة الكبيرة التي حصلت في روسيا بعد انفجار التوتر بين فاغنر والرئيس فلاديمير بوتين.
وبالعودة للاتفاقات المبرمة بين كل من تركيا وروسيا منذ اتفاق وقف إطلاق النار الذي رسمه مسار أستانة عام 2017 وما نتج عنه من تفاهمات تتعلق بتبريد خطوط القتال في المنطقة الواقعة بين سكة قطار حلب -دمشق وطريق الترانزيت بين المدينتين/M5 و«اتفاق سوتشي» أيلول (سبتمبر) 2018 وملحقاتها من مذكرات وخرائط وتقسيم المناطق إلى نقاط خفض تصعيد في أربع مناطق من درعا إلى إدلب وما بينهما في ريف دمشق وحمص، وانتشار نقاط المراقبة التركية والإيرانية في منطقة إدلب وانتهت التفاهمات العريضة لذلك المسار بعد التوافق بين الرئيسين اردوغان وبوتين بالتوقيع على اتفقا موسكو في 5 آذار (مارس) 2020 لكنها لم تنفذ وحاولت موسكو عدم استفزاز أنقرة مجددا وفرض ما جرى التوافق عليه.
وتستمر حالة الجمود في مساحات السيطرة منذ ثلاث سنوات وشهور قليلة، تستثمر موسكو خلال ذلك في المسار السياسي مع تركيا خارج مسار الأمم المتحدة العريض، وتتمثل النظرة التركية للاتفاقات بتعهدات موسكو إبعاد ما تصنفها أنقرة بتنظيمات «إرهابية» عن شريطها الحدودي، مقابل ضمان تركيا للنشاط التجاري على الطريق الدولي (M4) وإنشاء منطقة أمنية على عمق 6 كم من جانبي الطريق، بينما تبنت موسكو مؤخرًا رؤية جديدة لم تحتويها اتفاقات أستانة وسوتشي السابقة من خلال إنجاز خطوات فعلية في مسار ترعاه للتطبيع بين أنقرة ونظام الأسد، وتحقيق إجراءات فعلية كافتتاح السفارات بين دمشق وأنقرة، وربما عقد لقاء على مستوى القمة بين الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، ورئيس النظام السوري بشار الأسد.
وفي هذا السياق، أكد سفير النظام السابق في أنقرة، نضال قبلان، لوسائل إعلام روسية أن تطبيق تركيا لشروط النظام السوري، وأبرزها خروج القوات التركية من الأراضي السورية، هي المحدد لعملية التطبيع والمصالحة بين الجانبين، مشيرًا إلى أن أي لقاء بين الأسد واردوغان لن يتم إلا بموافقة الأخير على الشروط التي وضعها النظام على طاولة مسار التطبيع الذي ترعاه روسيا، وانضمت له لاحقًا إيران، ومن ضمنها مطالبات النظام بوقف أنقرة دعمها لفصائل المعارضة السورية، وإعادة فتح المعابر الحدودية بين الطرفين.
وأكد قبلان، أن الطرح الروسي لمسار التطبيع يمكن اعتماده كـ «أساس نظري» في خريطة طريق المصالحة، نافيًا ان يكون هناك أي «خرق» مستجد في العملية، متفائلاً في التغييرات الحكومية التي أجراها اردوغان، وبشكل خاص تعيين هاكان فيدان وزيرًا للخارجية، وبدور الدبلوماسية التركية الجديدة في القرارات المستقبلية المتعلقة بالعلاقات والمصالحة بين أنقرة ونظام الأسد.
الجدير بالذكر أن روسيا تبنت في كانون الأول (ديسمبر) 2022 عملية التطبيع بين النظام السوري وتركيا، حيث ضم لقاء جمع وزراء الدفاع التركي ونظيريه الروسي والسوري لأول مرة بعد قطيعة استمرت لأكثر من عقد من الزمن، إلا أن المسار لم يحقق ما طمحت له موسكو، بسبب طريقة تعاطي الجانب التركي مع الأمر من رؤية مرحلية حكمتها الانتخابات التركية من جهة، وتراكمات في النقاط الخلافية بين الطرفين من جهة أخرى.
وبالتوازي مع ذلك، لا يمكن تهميش التغيرات في طبيعة العلاقة بين روسيا وتركيا في ملفات أخرى من العالم، وما ستعكسه هذه التغيرات على سوريا بشكل عام، وعلى منطقة خفض التصعيد في إدلب بشكل خاص، ومن أبرزها لقاء الرئيس اردوغان مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في أنقرة، وتسليمه خمسة قادة من لواء أزوفستال ممن استسلموا للقوات الروسية ونقلوا إلى تركيا بعد وساطة الأخيرة، مقابل بقاءهم في إسطنبول حتى نهاية الحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة لما أكده اردوغان من دعمه لانضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي «الناتو» وموافقة تركيا على ضم فنلندا للحلف وموافقتها المبدئية على ضم السويد، كما أن من جملة التغيرات النظرة الروسية لتوسع نفوذ تركيا في أوروبا الشرقية والبلقان، وجاءت ردود الفعل الروسية بشكل مباشر، حيث ألغى الكرملين زيارة متوقعة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا الشهر المقبل، كما لم تخفي تصريحات المسؤولين الروس انزعاجهم من السياسة الجديدة لاردوغان، ومن هذه التصريحات ما جاء على لسان رئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الاتحاد الروسي فيكتور بونداريف قوله إن تركيا «تتحول إلى دولة غير صديقة بعد اتخاذها سلسلة من القرارات الاستفزازية» وهذا ما يفتح باباً من التكهنات حول انعكاسات السياسات التركية مع روسيا في سوريا وفي إدلب بشكل خاص، بعد علاقات من الشراكة بين البلدين انطلقت عام 2016 وعلى حساب علاقات تركيا مع أوروبا وأمريكا، الأمر الذي تسعى السياسة التركية الجديدة إلى موازنته والتعامل معه بشكل براغماتي يقوم على أساس تحصيل الفائدة من كافة الأطراف.
وفي سياق منعكسات العلاقات الروسية-التركية على شمال غرب سوريا، تنكشف ملامح صراع عسكري جديد بين قوات سوريا الديمقراطية «قسد» المدعومة من وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاغون» وقوات نظام الأسد المدعومة من روسيا، والميليشيا الإيرانية، ما يجعل السياسة الروسية في حالة من الارتباك والتشتت في طريقة تعاطيها مع أطراف الصراع في شمال غرب وشمال شرق سوريا، في الوقت الذي تشغل فيه الحرب الروسية-الأوكرانية أولى اهتمامات إدارة بوتين، ففي الميدان شهدت مناطق شمال شرق سوريا الممتدة بين التنف في الجنوب الشرقي من البادية السورية، والقامشلي في أقصى الشمال الشرقي تحشيدا عسكريا من كافة الأطراف، حيث استقدم نظام الأسد الفرقة «الرابعة» المدعومة من روسيا إلى جانب ميليشيا «اسود العشائر» التي يقودها زعيم قبيلة البكارة نواف البشير إلى بلدات خشام والطابية والحسينية شمال شرق محافظة دير الزور، كما استبدلت نقاط كانت تسيطر عليها «الفرقة الرابعة» في المنطقة ذاتها بقوات من «الفيلق الخامس» المدعوم بشكل أكبر من روسيا. وتعتبر هذه القرى خطوط تماس بين قوات النظام والميليشيات الإيرانية، وقوات التحالف الدولي وقوات «قسد» التي استقدمت المزيد من قواتها من نقاط تتمركز بها جنوب مدينة الحسكة إلى ريف دير الزور، لتستقر في منطقة المعامل ودوار المدينة الصناعية، والمحلج ومطحنة دير الزور شرق المدينة، فيما استقرت التعزيزات الأكبر قرب حقل «كونيكو» للغاز، حيث توجد القاعدة الأمريكية في سوريا.
من جانبها دفعت القوات الأمريكية صباح الأحد الفائت بأكثر من 50 آلية عسكرية من شمال محافظة الرقة ومدينة منبج إلى مناطق خطوط التماس مع قوات نظام الأسد شرق نهر الفرات في ريف دير الزور، وأفادت مصادر محلية لـ «القدس العربي» بإزالة «قسد» للألغام على طول خط الجبهة الفاصل بينها وبين قوات النظام من بلدة الطابية وحتى محيط «دوار واقع» شمال مدينة دير الزور.
وتشهد المنطقة النفطية مزيدا من التحشيد العسكري وسعت روسيا عبر شركة فاغنر إلى السيطرة على حقل العمر النفطي الواقع على شرق نهر الفرات عام 2018 ما عرضها إلى خسارة فادحة لعشرات المقاتلين الأجانب إضافة إلى آخرين من المتعاقدين السوريين.
ولا يمكن تفسير التحشيدات إلا بان تكون سببًا في رغبة الروس وقوات النظام في استعادة السيطرة على المنطقة، إلا ان انتشار قوات التحالف الدولي ضمنها من أبرز العوائق في ذلك، كما أن الخروقات المتكررة خلال الشهر الجاري لـ «بروتكول منع التصادم» بين روسيا وأمريكا، يمكن ان يحمل إشارات تنبئ عن تطورات لاحقة ستنكشف خلال الفترة المقبلة.
وفي ظل هذه التطورات الميدانية شمال شرق سوريا، والسياسة المتمثلة بطبيعة التنسيق التركي-الروسي في سوريا، تبرز عوامل من شأنها أن تكون بواعث لتغيرات مستقبلية في خريطة السيطرة والنفوذ للأطراف الفاعلة في سوريا. إلا أن انعطافة اردوغان الأخيرة تشكل التحدي الأبرز في المرحلة المقبلة وتكرس مفهوم أمننة السياسة أكثر من أي مرحلة خلت بالنسبة لطريقة إدارة أنقرة لعلاقاتها الدولية.

المصدر القدس العربي
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل