لو أنصفت الدولة الأسدية رجالاتها لوضعت تماثيلَ لعلي دوبا في العديد من الساحات البارزة، ولكان حظي على الأقل بجنازة ينال عبرها أعلى درجات التكريم. لكن موت علي دوبا قبل ثلاثة أيام أكّد على القاعدة المعهودة، وهي أن رجال المخابرات “الكبار” يموتون بعيداً عن الأضواء، وكأن موتهم يستأنف حياتهم المعتمة، لابتعادها عن الأضواء ولأسوأ ما تحيل إليه كلمة العتم.
على سبيل المثال، لم نعثر على خبر يخص وفاة العماد علي دوبا في موقع وكالة أنباء الأسد سانا، بل إن وضع اسمه ورتبته على محرك بحث الموقع لا يأتي بأية نتيجة على الإطلاق، وكأن الميت لم يكن من أركان الدولة الأسدية خلال ما يزيد عن ربع قرن من زمن الأب المؤسس. قد يروق هذا لكثر من محبّي البحث عن صراعات داخل السلطة، ليروا فيه جحوداً من الأسد الابن، ودلالةً على علاقته السيئة بما صار دارجاً تسميته بـ”الحرس القديم”. إلا أن استعراض وفيّات أخرى، لضبّاط مخابرات كبار، يفيد بالنتيجة ذاتها حيث لم يحصل موتى مثل محمد ناصيف خير بك ورستم غزالي… على التكريم اللائق بخدماتهم، ولو أن أحداً منهم لم يكن بوزن علي دوبا.
عُيّن علي دوبا رئيساً للاستخبارات العسكرية عام 1974، وبقي في منصبه حتى عام 2000، حين أحيل إلى التقاعد بعد أن أنجز مهمته على أكمل وجه. والواقع أن السوريين بغالبيتهم عاشوا مع ثمرة ما فعله وكأن ذلك من طبائع الأمور، وكأن وجود مفرزة للمخابرات العسكرية حتى في بلدات صغرى أو في بعض القرى هو شأن اعتيادي جداً، وهو في الحد الأقصى دلالة على تغوّل وحش المخابرات الذي يُحكى عنه بعمومية في سياق الحديث عن النظام المخابراتي، أو في سياق تجارب شخصية قد تكون شديدة الأهمية من دون تحميلها عبء تشريح أجهزة المخابرات.
في عام 1976، مع تدخل الأسد العلني في لبنان، دشّن علي دوبا أول حضور للمخابرات العسكرية على نطاق واسع. حينها تولت المخابرات العسكرية القبض على بعض من المثقفين الذين أصدروا بياناً يندد بالتدخل. الأهم ربما كان القبض على “ناشطين بتعبير أيامنا” لأنهم أطلقوا ألسنتهم في جلسات خاصة منتقدين تدخّل الأسد، ومنهم صديق دراسة للأخير أرسل له بالبريد رسالة لوم، وكان معلوماً أن المخابرات العسكرية وضعت المئات ممّن لم تقبض عليهم على لائحة المطلوبين. تلك كانت أول حملة مخابراتية كبرى تحدث بعد انقلاب حافظ الأسد، والمميز فيها أنها سجّلت تولّي المخابرات العسكرية مهمة هي تقليدياً في صلب مهام جهاز المخابرات العامة وشعبة الأمن السياسي التابعة لوزارة الداخلية.
بدءاً من ذلك التاريخ، قاد دوبا جهاز المخابرات، الذي يُفترض أنه معنيّ حصراً بالجيش، ليهيمن على حياة المدنيين، ولتتكرس الهيمنة أكثر فأكثر خلال المواجهة مع الإخوان المسلمين بدءاً من صيف 1979. في دلالة على الهيمنة، لا انتقاصاً منها، تحضر الإشارة إلى استثنائين عسكريَين هما جهاز “أمن السرايا” والمخابرات الجوية، الأول منهما بقي مختصاً بسرايا الدفاع ويتبع قائدها رفعت الأسد الذي لم يكن ليقبل سلطة مخابرات علي دوبا على إقطاعته، والثاني يختص بسلاح الطيران الذي إدراكاً من حافظ الأسد لأهميته في قمع السوريين أبقاه منفصلاً وتابعاً له مباشرة بقيادة رجل عتم آخر هو محمد الخولي الذي سيُتّهم غربياً بالإشراف على تنفيذ عمليات إرهابية في ألمانيا وإنكلترا.
قيل الكثير في دور سرايا الدفاع أثناء المواجهة مع الإخوان، وهذا يصحّ على مجزرة حماة ومجزرة سجن تدمر. أما في ساحة المواجهة الثانية “حلب” فلم يكن دور السرايا يفوق دور الوحدات الخاصة بقيادة علي حيدر، أو الفرقة الثالثة بقيادة شفيق فيّاض. ولا شك في أن انتشار ميليشيات الأسد تلك قد روّع أهالي المدينة على العموم، إلا أن فرع المخابرات العسكرية “بقيادة مصطفى التاجر ونائبه حسن خلّوف” كان رأس حربة ترهيب المدينة، إلى درجة صار فيها لمصطفى التاجر ونائبه سطوة تفوق سطوة كافة رجالات السلطة الآخرين.
يُسجّل في السياق أن المخابرات العسكرية أسوة بالمخابرات العامة والسياسية، رغم صعود الأولى وهيمنتها، فشلت جميعاً في لعب دور استباقي بالكشف عن مخططات “الطليعة المقاتلة” حتى أعلن التنظيم عن نفسه في مجزرة مدرسة المدفعية، أي أن المخابرات فشلت في ما يُفترض أنها مهمتها الأساسية، وذلك لم يؤدِّ إلى إعادة النظر في النهج الذي كانت عليها. على العكس من ذلك، كانت من نتائج الفشل رميه على عدم كفاية ما هو موجود، وبناءً عليه تضخّمَت أجهزة المخابرات وفي مقدمها المخابرات العسكرية التي كانت سبّاقة في التوسع على كافة الأراضي السورية، وفي الهيمنة على مختلف مناحي الحياة العامة.
ستأتي لاحقاً الثورة عام 2011 لتؤكّد على فشل أجهزة المخابرات في استباق الحدث، ضمن سلطة تُصنّف كسلطة مخابرات وعسكر! وبالعودة إلى الثمانينات، من المرجّح أن الأسد الأب ومن يعتمد عليهم مخابراتياً، وفي رأسهم علي دوبا، استقرّوا على دور المخابرات كأداة ترهيب وحرب على السوريين كافة، وبما يفترق إلى حد كبير عن المهمة الكلاسيكية للمخابرات ضمن الأنظمة التي تحتفظ بالحرب كخيار أخير. هذا الدور تطلّب تضخّماً في أعداد منتسبي أجهزة المخابرات، العسكرية منها خاصة بسبب توسعها وهيمنتها، وصار من المتعارف عليه أن البطش “المجّاني حتى” هو الغاية لردع السوريين عن معارضة السلطة، وبذلك تنتفي تلقائياً الحاجة إلى عمل مخابراتي يستكشف ويكشف أعداء السلطة متى وُجِدوا.
لقد وصلت التقديرات، مع استلام الوريث السلطة عام 2000، إلى أن عدد منتسبي أجهزة المخابرات يقارب مئتي ألف، ومعظم هؤلاء متورّط مباشرة في عمليات البطش والترهيب، ما يجعله “على الأرجح مع محيطه الأسري القريب” مدافعاً شرساً عن السلطة، وهذا مكسب إضافي لدولة المخابرات التي كان علي دوبا مساهماً رئيسياً في إنشائها وتكريسها. كتصوّر متكامل عن الحرب، كان مناطاً بأجهزة المخابرات ممارستها في أوقات السلم، بينما تتدخل الميليشيات ذات التدريب والتسليح الأفضل عندما يكون هناك خطر على السلطة، وضمن هذه القسمة يمكن فهم حرص العائلة الحاكمة على الإمساك مباشرة بميليشيات مثل سرايا الدفاع ثم الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، في حين لم يتسلم أحد من العائلة منصباً مخابراتياً باستثناء الصهر آصف شوكت الذي عُيّن رئيساً للمخابرات العسكرية بين عامي 2001 و2009.
كمثال على الآلة الجهنمية التي ساهم فيها دوبا، نسرد حادثة نعرفها عن كثب، فخلال أقل من شهر زار عناصر من فرع المخابرات أحد المعارضين لاستجوابه في بيته من أجل ما كان يُعرف باسم “دراسة أمنية”. في المرة الثانية قال المعارض للعناصر أن زملاء لهم أتوا قبل أيام وسجّلوا المعلومات الشخصية ذاتها “مثل العمر والتعليم والأقرباء..”، وسألوا الأسئلة نفسها، فلماذا أتوا لتكرار الاستجواب؟ تلطّف المساعد بإخبار المعارض أن هؤلاء الزملاء على الأرجح من قسم آخر “في الفرع نفسه” وليسوا من القسم ذاته، وعندما سألهم مستخدماً المنطق عمّا يمنعهم من العودة إلى الأرشيف لمعرفة إجاباته؟ قال المساعد أن الدخول إلى الأرشيف ممنوع إلا بإذن خاص من رئيس الفرع، وهو ما لا يحدث إلا نادراً.
نعلم أنه مثال يكاد ينتمي إلى مسرح العبث واللامعقول؛ أن يكون هناك آلاف من عناصر المخابرات العسكرية الذين يكررون أفعالاً قام بها زملاء لهم، وربما تكون أفعالاً روتينية مكررة إلى حد الضجر على منوال زيارة واستجواب ذلك المعارض المكشوف، بل هناك زملاء من فروع مخابرات أخرى يقومون بتلك الأفعال، وعشرات الألوف من هؤلاء يكتبون التقارير المتشابهة لتودع في أرشيف يتضخم ولا يعود أحد إليه! أحيل علي دوبا إلى التقاعد ثم مات مؤخراً، لكن دولته هذه باقية وتتمدد رغم فشلها الاستخباراتي، ولكي يتفاقم اللامعقول يُطرح مستقبل وحش المخابرات كلما طُرح للنقاش مستقبل سوريا، فتتراوح الأسئلة بين القدرة على الحفاظ عليه وإدارته جيداً، وبين الترفّق بعناصره ليعيشوا تقاعداً هنيئاً يُختتم بنعوة تنصّ على أنهم قضوا حيواتهم في الصلاح والتقوى!
عذراً التعليقات مغلقة