كان يفترض بانطلاق مسار أستانة بداية 2017، في أعقاب سقوط مدينة حلب وسيطرة قوات النظام عليها بمساندة سلاح الجو الروسي والميليشيات التابعة لإيران، أن يكون مساراً عسكرياً محض لتهدئة الجبهات ومراقبة وقف إطلاق النار، نتج عنه مناطق خفض التصعيد الأربع.
ومع كل جولة من جولات هذا المسار كان النظام يقضم جزءاً من تلك المناطق ويهجّر أهلها على مرأى ومسمع بل وبدعم الضامن الروسي والتزام الصمت من باقي الضامنين، إلى أن تقلصت هذه المناطق لتقتصر على جزء من منطقة خفض التصعيد الرابعة بعد أن اجتاح النظام بمساندة حليفيه الروسي والإيراني في صيف 2019، مناطق ريف حماة الشمالي وإدلب الجنوبي وصولاً إلى مدينة سراقب، وحشر أهلها في شريط حدودي ضيق بالقرب من الحدود التركية.
والثلاثاء انطلقت الجولة 20 من مسار أستانة الماراثوني في العاصمة الكازاخستانية، في ظل تحولات كبيرة طرأت على الملف السوري، أهمها عودة نظام الأسد الى جامعة الدول العربية، وحضور رئيس النظام بشار الأسد القمة العربية في جدة، وإعادة تطبيع العلاقات معه، ومع استمرار روسيا في مساعيها للدفع بمسار التطبيع المتعثر بين دمشق وأنقرة، يقابله توجه أميركي للتشدد في عرقلة خطوات التطبيع مع النظام، لاسيما بعد تقديم مشروع قانون رفض التطبيع إلى الكونغرس، بالتوازي مع موقف أوروبي متمسك بمسار جنيف وتطبيق القرار الدولي 2254 عبر لاءاتٍ ثلاث معروفة، هي لا للتطبيع مع النظام، ولا إعادة اعمار، ولا عودة لللاجئين قبل التقدم بالمسار السياسي وفق القرار 2254، الذي طالما سعى النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون لتجاهله والالتفاف عليه، ولحقت بهم الدول العربية الساعية لتعويم نظام الأسد والتي تجاهلت ذكره في بيان قمتها الآخيرة في جدة.
يجب الآخذ بعين الاعتبار أن الأوروبيين لا يملكون أدوات تنفيذ القرار، وإنما يملكون بعض أدوات التي تُستخدم للتعطيل والفرملة لا أكثر، مثل العقوبات والإحجام عن التمويل، وهي أدوات تسهم مع ذلك، وإن في الحد الأدنى، بمنع جهود الآخرين من الإجهاز على حلم السوريين بالانتقال السياسي والتحول الى بلد ديمقراطي.
في المقابل، فإن مسار أستانة الذي يضم كل من روسيا وتركيا وإيران ونظام الأسد، يتجاهل أي وجود للمعارضة السورية، التي غلب على رئيس وفدها النعاس في مطار سوتشي أواخر 2017، ففوّض الجانب التركي بالتفاوض عنهم واتخاذ أي قرار يخص الشأن السوري. المبادرة العربية أيضاً أقصت المعارضة وتعاملت في معادلة الحل في سوريا على أساس وجود طرف واحد هو نظام الأسد، غير مكترثة بمحددات الحل السياسي النهائي وإعطائها الأولوية لقضايا بعينها، مثل المخدرات واللاجئين والإرهاب والتي تعتقد أنها ملفات يمكن حلّها ضمن اطار مسار أستانة، وبهذا الرهان ربما يتسع قوس المشاركة العربية في هذا المسار خلال المرحلة القادمة على حساب إهمال المسار الدولي في جنيف.
يبدو أن التحرك العربي قد دفع مختلف الأطراف لتسريع أو إعادة الحياة للمسارات الموازية القائمة، وعلى راسها أستانة ومسار اللجنة الدستورية، لكن وفق محددات وتصورات محدثة يستهدف المنخرطون بها حسم السباق كلّ لصالحه.
فبينما يبدو إصرار الاتحاد الأوروبي على الحفاظ على رعاية الأمم المتحدة لمسار الحل السياسي المأمول في سوريا، يعتقد أطراف أستانة أنه المسار الوحيد الذي له تأثير على الأرض، والذي من المؤكد القول أنه تجاوز القضية السورية وتعداها الى معالجة التباينات والخلافات بين الدول الثلاث حول ملفات آخرى. أما الخطوات العربية فمن الواضح أنها الأقرب لمسار أستانة وتصب في طاحونتها من حيث رؤية الدول العربية ومبادرتها للحل المسماة “خطوة مقابل خطوة”.
هذه التحولات يمكن أن تعطي مؤشرات عما إذا كانت النسخة الجديدة من اجتماعات أستانة ستكون تكملة للمسارات السابقة، أو سيكون فيها تفاهمات وتوافقات جديدة، لعل أهمها:
أولاً: تمسك الأطراف الثلاث بهذا المسار والتوجه نحو ترسيخ توافقاتها على الأرض لجهة فتح الطرق الدولية وزيادة التنسيق العسكري والأمني بينهما، والاستمرار في خطوات التطبيع وإزالة الخلافات والعراقيل التي تعيق عملية التطبيع بين أنقرة ودمشق.
ثانياً: إعطاء الأولوية لمسالة إعادة اللاجئين وتوفير البيئة الامنة لهذه العودة، من خارج الاشتراطات التي تضمنها القرار 2254، حيث تبدأ بعودة اللاجئين الى مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة النظام.
ثالثاً: توجيه رسالة إلى المجتمع الدولي أن هذه الأطراف ما زالت ملتزمة بمسار الحل السياسي من خلال تفعيل مسار اللجنة الدستورية المتوقف منذ أكثر من عام، بسبب رفض روسيا انعقادها في جنيف، ما يعني الخضوع للمطالب الروسية بنقل مباحثات اللجنة إلى بلد آخر تختاره موسكو وتوافق عليه دمشق، وبالطبع لا يمانع المبعوث الدولي غير بيدرسن وبعض أطراف المعارضة حتى لو كان المكان دمشق.
لكن كل هذه التوقعات والرهانات تبقى معلقة ورهن الموقف الأميركي من الملف السوري عموماً، ومستقبل نفوذه في شرق الفرات خصوصاً، وربط كل ذلك بما ستؤول اليه نتائج الغزو الروسي لأوكرانيا، والتفاهمات الأميركية-الإيرانية الجارية في العاصمة العمانية مسقط.
يبقى السؤال المطروح: ما هي خيارات المعارضة السورية وموقف هيئة التفاوض الممكنة والمعلنة من نقل مباحثات اللجنة الدستورية خارج قبة الأمم المتحدة، خصوصاً أن بعض العواصم المقترحة غير حيادية ومنحازة للنظام؟ وما هو موقف الفصائل من المرحلة الجديدة التي ستطلبها دول مسار أستانة؟ وما موقف العرب من هذا المسار؟ وما الذي يمكن أن تفعله الولايات المتحدة وأوروبا من خطوات عملية لوقف كل ذلك، هذا إذا كانت جادة بالفعل بالحفاظ على مسار جنيف؟
عذراً التعليقات مغلقة