تنفّس اللاجئون السوريون في تركيا الصعداء مع إعلان فوز رجب طيب أردوغان بالرئاسة التركية في جولة الإعادة، بعد أن فاز تحالف الجمهور بغالبية مقاعد البرلمان في الدورة الأولى من الانتخابات، وهو يضمّ حزب العدالة والتنمية وبضعة أحزاب متحالفة معه، ما يعني استمرار السلطة ذاتها في تركيا، وفشل المعارضة التركية، سواء في نيْل أغلبية البرلمان أو الرئاسة التركية. فقد زرعت حملة العداء والتحريض المستمرّة منذ عدة سنوات، التي شنّتها المعارضة التركية على اللاجئين السوريين في تركيا في السنوات الأخيرة، الخوفَ في قلوبهم، حيث زعمت أنهم سبب جميع مشكلات تركيا والمجتمع التركي الاقتصادية والسياسية والمجتمعية، مطالبين بترحيلهم. وقد تسببت هذه الحملة في مضايقاتٍ كثيرة للسوريين، سواء في محيطهم التركي أو في الدوائر الحكومية.
ومع الانتخابات أخيرا، تصاعدت قضية إعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم إلى الواجهة، بعد أن رفعت كل الأحزاب التركية سقف الوعود التي قدّمتها بخصوص هذه القضية، وذلك تحت ضغوط حالة الاحتقان في الشارع التركي. لذا جاءت وعود انتخابية كثيرة على نحو غير منطقي وغير قابل للتحقيق، وكانت غايتها كسب الناخب التركي بشكل أساسي. وزاد التحريض أكثر بين الجولتين الأولى والثانية من الانتخابات الرئاسية، وخصوصا بعد تحالف أوميت أوزداغ (رئيس حزب النصر) مع كمال كلجدار أوغلو (مرشّح تحالف الأمة) المعارض؛ وبات شعار إعادة السوريين الشعارَ الرئيس لمرشّح المعارضة أوغلو، خلال جولة الإعادة، وامتلأت المدن التركية بلوحاتٍ إعلانيةٍ طرقيةٍ كبيرة تحمل شعاراتٍ عنصريةً تجاه السوريين.
وعلى الرغم من أن التدفّق الكبير للاجئين السوريين إلى تركيا أنتج بعض الآثار السلبية، فإن معظم الاتهامات التي تنسبها الأوساط المعادية إلى السوريين تسقط عند أيّ محاكمةٍ منطقية، وإذا وُضعت الآثار الإيجابية مع السلبية في كفّتي الميزان، فإن الكفّة الإيجابية سترجّح بشكل كبير. وتبيّن تقارير ودراسات كثيرة أن السوريين يُشكلون قيمة مضافة للاقتصاد والمجتمع التركييين، وأنهم ليسوا عالةً عليهما، وأنهم أسهموا في تنمية عدد من القطاعات في الاقتصاد التركي، حتى إن قطاع الأعمال التركي يطالب بعدم ترحيلهم، لأن ذلك سيؤثّر سلبًا في عدد من قطاعات الاقتصاد. فقد صدر تقرير لغرفة تجارة إسطنبول، بعنوان “روّاد الأعمال السوريين في اقتصاد تركيا”، أوضح أن اللاجئين السوريين يؤثرون إيجابًا في التطوّر الاقتصادي في تركيا، وأن الأسعار في المناطق التي يوجد فيها اللاجئون بكثافة انخفضت بنسبة 2,5%، وأن السوريين أسّسوا أعمالًا كثيرة في تركيا. وقد قدّر التقرير العدد الإجمالي للشركات السورية بنحو 20 ألفاً في تركيا كلها، وعدد الشركات التي أسّسها السوريون في غازي عنتاب وحدها 2600، من أصل 30 ألفاً. ووفقًا للتقرير، بلغت قيمة إسهام السوريين في الاقتصاد التركي 4.3 مليارات يورو (27.2 مليار ليرة تركية) ابتداءً من نهاية عام 2017؛ وهو ما يشكل 1.96% من إجمالي الناتج المحلي لتركيا. وبحسب توقّعات التقرير، سترتفع هذه النسبة إلى 4% عام 2028، في ظل وجود مليون عامل سوري في البلاد. وبهذه المناسبة، يشكر السوريون الدولة والشعب التركيين على استقبال هذا العدد الكبير من اللاجئين السوريين الفارّين من الموت، في وقتٍ أغلقت فيه غالبية الدول العربية “الشقيقة” أبوابها أمام السوريين الفارّين من الحرب.
حجم المبالغات ضد السوريين في تركيا كبير. وكان هدف المعارضة من الحملة ضدهم النيْل من الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية
تبيّن هذه الوقائع، وغيرها كثير، أن حجم المبالغات ضد السوريين كبير. وقد كان هدف المعارضة من هذه الحملة النيْل من الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية، عبر اتهام اللاجئين السوريين بأنهم السبب في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في تركيا، واتهام الرئيس أردوغان وحزبه، العدالة والتنمية، بأنهما المسؤولان عن فتح أبواب تركيا أمام 3.6 ملايين لاجئ سوري فرّوا من الموت باتجاه تركيا، ويبالغون بأعدادهم زاعمين بأنهم سبعة ملايين لاجئ سوري.
وعلى الرغم من أن مواقف أحزاب التحالف المعارض المكوّن من ستة أحزاب (الطاولة السداسية) لا تتوافق على الموقف المعادي للسوريين ذاته، وأن قيادات المعارضة كانت تُردّد في اللقاءات الخاصة أنه استخدام سياسي، وسيتصرّفون بمسؤولية “الدولة” إن فازوا بالسلطة؛ فقد أحدثت حملة العداء المنظمة على مدى سنوات عدة مناخًا معاديًا للسوريين، في أوساط واسعة من المجتمع التركي، لا سيّما في الأوساط المؤيدة للمعارضة، وانعكست الحملة على شكل إساءة تعامل وعنصرية أحيانًا، عانى آثارَها سوريون كثر في حياتهم اليومية، وانعكست أيضًا تعقيداتُ خاصة بكل ما يخص شؤون السوريين في تركيا، ما ضاعف الخوف في أوساط اللاجئين السوريين، لا سيما أن الرئيس أردوغان اندفع إلى تبنّي موضوع عودة اللاجئين السوريين، وتقديم الوعود بالعمل على إعادتهم إعادة طوعية وكريمة، وقامت الحكومة التركية بتوسيع التواصل مع النظام السوري، حتى وصل إلى مستوى اجتماع وزيري الدفاع ووزيري الخارجية في موسكو. وامتنعت وسائل الإعلام التركية، حتى الموالية، عن أي تناول إيجابي لقضية اللاجئين السوريين، أو حتى الدفاع عن سياسة الحكومة تجاههم، من أجل إضعاف تأثير تحريض المعارضة. وقد نجح أردوغان والحكومة في ذلك إلى حدّ بعيد، ولكن هذه السياسة أنتجت من جهة أخرى ضغوطًا إضافية على السوريين.
بعد انتهاء الانتخابات وفوز التحالف الذي يقوده الرئيس أردوغان؛ يتساءل اللاجئون السوريون في تركيا عن مدى تحوّل السياسية التركية إيجابيًا تجاه وجودهم، إذ إنهم يقيمون في تركيا، ليس كلاجئين لهم حقوق منصوص عليها في المعاهدات الدولية، بل تحت قانون “الحماية المؤقتة” الذي وُضع سنة 2013 خصّيصًا لتنظيم أوضاع اللاجئين السوريين الذين تزايدت أعدادهم كثيرًا بين 2011 و2013. وتشوب هذا القانونَ نواقص كثيرة تعقد حياة اللاجئين السوريين في تركيا، فحق الحماية المؤقتة لا يتضمّن حق العمل للاجئ السوري، وتتشدّد الدوائر التركية بمنح إذن العمل للاجئين السوريين، فأقل من مائة ألف سوري لديهم إذن عمل، من أصل قرابة 1.5 مليون مشتغل سوري في السوق التركية. وعلى الرغم من أن جزءًا من السوريين يحصل على مساعداتٍ مالية جزئية عبر الحكومة التركية، فإنها غير كافية، وعلى اللاجئين تأمين مصادر عيشهم بأنفسهم ضمن هذه الظروف. وتوجد تقييدات لأماكن سكنهم، وتقييد تنقلهم بين المحافظات، حيث لا يكون ذلك إلا بإذن رسمي لا يُمنح بسهولة، ولا يحقّ لهم السفر إلى خارج تركيا والعودة إليها، ولا يُمنحون أي وثائق سفر مؤقتة، ولا يحقّ لهم لمّ الشمل، فضلًا عن تعقيداتٍ أخرى عديدة. وقد اضطر معظم السوريين إلى العمل بدون إذن عمل، وهو وضع غير شرعي، يجعل العامل السوري يقبل بأجر أقل وبشروط عمل أصعب.
تبيّن تقارير ودراسات كثيرة أن السوريين يُشكلون قيمة مضافة للاقتصاد والمجتمع التركييين، وأسهموا في تنمية عدد من القطاعات
بدأت مناقشات في الأوساط الحكومية التركية عن ضرورة تعديل قانون الحماية المؤقتة، ومعالجة الصعوبات التي يواجهها اللاجئون السوريون، خصوصا أن نحو 12 عامًا قد مضت على وجودهم في تركيا، وأن قانون الحماية المؤقتة وُضع ليكون مؤقتًا، على اعتبار أن وجود اللاجئين السوريين مؤقت، وأنهم عائدون عندما تتوقف الحرب في سورية قريبًا ويتحقق انتقال سياسي ومناخ يتيح لهم العودة الطوعية والآمنة، غير أن هذه النهاية السعيدة لم تظهر، رغم مرور أكثر من 12 عامًا على اندلاع الحرب، ولا يبدو أنها قريبة، وقد أسّس لاجئون سوريون كثيرون أعمالًا وأسّسوا أسرًا، ووضعوا أبناءهم في المدارس والجامعات التركية.
وعلى الرغم من بدء مناقشة موضوع اللاجئين السوريين في الأوساط الحكومية، ثمّة خشية من تأخر الاقتناع بضرورة تطوير السياسات الحالية لإدارة ملفّ اللاجئين، وتحويل هذه النقاشات إلى سياساتٍ وقراراتٍ وإجراءاتٍ جديدة تعالج أوضاع اللاجئين السوريين على ضوء تجربة 12 عامًا، بما ينعكس إيجابًا على المصالح التركية مع مصالح اللاجئين؛ إذ يخشى أن تتردّد الأوساط الحكومية التركية بالظهور حاليًا بأنها تحسّن أوضاع اللاجئين، حيث إن الانتخابات البلدية قادمة بعد عشرة أشهر، ويتوقع أن تستمر المعارضة التركية في عزف المعزوفة ذاتها ضد اللاجئين السوريين، وستتابع أفعال حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، وتراقب مدى الجدّية في تنفيذ الوعود الانتخابية، وخصوصا وعد الرئيس أردوغان بإعادة مليون سوري خلال سنتين. ويتوقع أن تتخذ الحكومة إجراءاتٍ تعالج بعض صعوبات اللاجئين السوريين، وأن تتخذ بعد الانتخابات البلدية إصلاحاتٍ أوسع، في سياسات وإجراءات إدارة ملفهم، وأن تشمل تلك الإجراءات من يحملون إقامة سياحية، وهم بأعداد كبيرة نسبيًا تبلغ عشرات الآلاف، وهؤلاء ليس لهم بلد آخر يلجأون إليه غير تركيا.
يعلم الجميع، وفي مقدّمتهم قيادات المعارضة، أن طريق عودة اللاجئين إلى ديارهم غير ممكنة حاليًا
ويبقى الإجراء الأهم هو القيام بحملة واسعة في أوساط الشعب التركي، ويقع الدور هنا على وسائل الإعلام التركية ووسائط التواصل الاجتماعي التركية، لإصلاح الصورة المشوّهة التي أوجدتها الحملة العنصرية ضد السوريين، وهذا بمثابة دفاع عن سياسة حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان تجاه اللاجئين السوريين أو تجاه القضية السورية برمّتها.
بعد انتخابات البلدية، سيكون التحالف الحاكم بقيادة الرئيس أردوغان متحرّرًا من ضغوط المعارضة، التي استعملت الملف الإنساني لأغراض سياسية، بدلًا من خوض الانتخابات بشعارات وسياسات اقتصادية واجتماعية وسياسية. ولكن من العدل أن نقول إنه ليس لدى كل أحزاب المعارضة ذلك الموقف العنصري، فحزب كل من أحمد داود أوغلو، وعلي باباجان، وكذلك أحزاب اليسار التركي، لها موقف موضوعي تجاه السوريين في تركيا. واللافت أن الجميع يعلم، وفي مقدّمتهم قيادات المعارضة، أن طريق عودة اللاجئين إلى ديارهم غير ممكنة حاليًا، وقد سعى كل من لبنان والأردن لإعادة بعضهم، وفشلا بسبب رفض النظام، إذ يريد أن يُبقيهم عبئًا على دول الجوار، إلى أن تُعاد شرعنته دوليًا ورفع العقوبات عنه ومساعدته في إعادة الإعمار. ولا توجد إمكانية لإعادة كامل المليون لاجئ سوري خلال ثلاث سنوات إلى مناطق سيطرة الجيش الوطني وسيطرة هيئة تحرير الشام في إدلب، فهي منطقة مكتظّة بأعداد نازحين من مناطق سورية الأخرى هربوا من الموت، وما زال مئات آلاف منهم يقيمون في الخيام، وهم أولى بالمساكن التي تُبنى من جديد بمساعدة قطر. ويُضاف إلى ذلك أن عودة اللاجئين يجب أن تكون إلى المنطقة التي نزح منها اللاجئ السوري، وليس إلى مكان آخر، وأن غياب الحوكمة والفوضى والفصائلية المسيطرة على مناطق سيطرة الجيش الوطني تجعل شروط الحياة صعبة، فضلًا عن غياب فرص العمل، فالمنطقة بحاجةٍ إلى خطة تنمية اقتصادية وإدارية وحوكمة كي تصبح بيئة صالحة لاجتذاب الاستثمارات وإيجاد فرص العمل. والإدارة التركية هي القادرة على إزالة كل تلك الفوضى وتنظيم انتشار الفصائلية خارج المدن وإقامة حوكمة نظامية، ولكن الأتراك يبدو أنهم ليسوا في هذا الوارد، ولا أحد يعلم الأسباب.
Sorry Comments are closed