كغيري من السوريين والعرب على اختلاف مواقفنا الأخلاقية والسياسية، كنت حريصا على سماع كلمة رئيس النظام السوري بشار الأسد في القمة العربية في جدة، لسماع ما سيقوله بعد 12 عاماً من إبعاده عن جامعة الدول العربية. وفي ذاكرتي وذاكرتنا تلك الخطب المتراكمة على مدار سنوات، والمليئة بالتفلسفات العصية على الفهم، وسرديات سياسية معطاة غير قابلة للتحليل المعرفي، وغير قابلة على إدراجها ضمن أي سياق تاريخي.
يمكن تسجيل الملاحظات التالية: أولاً، خلا خطاب الأسد من الحديث عن المؤامرة الكونية التي استهدفت سورية، أو الحديث عن السياسات العربية التي ناهضته وحاربته خلال السنوات الخمس الأولى من الثورة السورية، ولا يزال بعضها يناهضه، وهذا طبيعي في أجواء المصالحة العربية، فلا المكان ولا الزمان يسمحان بذلك.
ثانياً، غاب عن الخطاب كلياً أيّ حديث عن الوضع السياسي السوري الداخلي، أو معاناة الشعب السوري السياسية والاقتصادية في الداخل، وهذا مفهوم أيضا، فالمصالحة العربية مع الأسد لم تجر على أساس حقّ الشعب السوري بقدر ما كانت لأجل تحقيق المصالح العربية مع النظام السوري، كل لأسبابه الخاصة.
المصالحة العربية مع الأسد لم تجر على أساس حقّ الشعب السوري بقدر ما كانت لأجل تحقيق المصالح العربية مع النظام السوري
ثالثاً، لجأ الأسد كالعادة إلى تقديم تواشيح فكرية، وقد استوقفتني عبارة “… هي فرصة لترسيخ ثقافتنا في مواجهة الذوبان القادم الليبرالية الحديثة التي تستهدف الانتماءات الفطرية للإنسان وتجرّده من أخلاقه وهويته”. حاولت، وأنا قارئ كتب كثيرة عن الليبرالية بتنوعاتها الكلاسيكية والحديثة والنيوليبرالية، فهم هذه الفقرة من دون جدوى.
رابعاً، تحدّث الأسد عن الهوية العربية، فقال: “… ولتعريف هويتنا العربية ببعدها الحضاري، وهي تتهم زوراً بالعرقية والشوفينية بهدف جعلها في حالة صراع مع المكوّنات الطبيعية القومية والعرقية والدينية، فتموت وتموت معها مجتمعاتنا بصراعها مع ذاتها لا مع غيرها”. ويتنافى هذا الخطاب تماماً مع سياسة النظام على مدار عقود خلت في محاربة المكون الكردي في الشمال السوري، ويتنافى اليوم مع عملية التغيير الديمغرافي التي تحدُث في سورية باسم تقاطع المصالح بين الأقليتين الشيعية والعلوية، وبدعم إيراني.
خامساً، تحدّث الأسد عن المجتمعات النامية، وهو مصطلح كثيراً ما استخدمه في خطاباته، ومع أنّ هذا المصطلح توصيف واقعي، فإنّ استخدامه يأتي وفق أجندة أيديولوجية يُراد منها التأكيد أنّ هذه المجتمعات تحتاج فقط إلى التقدّم المادي ليس إلّا، وهي غير مهيأة للديمقراطية ولليبرالية.
أيّ مطالبة بإبعاد سورية عن إيران مسألة غير واردة في القاموس السوري
على أنّ أكثر ما تخفيه عبارة “المجتمعات النامية” أنّها لا تعني أنّ هذه المجتمعات غير مهيأة للديمقراطية فحسب، بل إنّها المسؤولة، في إشارة إلى المجتمع السوري، عن الخراب الذي حدث في سورية باعتبارها شعوباً همجية لا تعرف سوى العنف للتعبير عن رأيها، وأنّ “الدولة” كانت مضطرّة إلى محاربة العنف بالعنف، وليس العكس. وتذكّر هذه السردية اليقينية بما قاله الفيلسوف الأميركي إيمانويل فالرشتاين: “إذا ما تحقّق اليقين، فسيكون بمثابة موت أخلاقي، ولن يكون لدينا دافع أخلاقي لفعل شيء، وستكون لدينا الحرية للانغماس في كلّ ما يراودنا من نزعات، وسنسعى إلى إرضاء ما يختلج نفوسنا من نزوات ذاتية أنانية، لأنّ جميع الأفعال تقع آنذاك في حدود اليقين الذي رسمناه لأنفسنا”.
سادساً، قال الأسد: “أما سورية فماضيها وحاضرها ومستقبلها هو العروبة… لكنّها عروبة الانتماء لا عروبة الأحضان… فالأحضان عابرة أم الانتماء فدائم… وربما ينتقل الإنسان من حضن إلى آخر لسبب ما… لكنّه لا يغير انتماءه، أما من يغيره فهو من دون انتماء من الأساس، ومن يقع في القلب لا يقبع في حضن… وسورية قلب العروبة وفي قلبها”… نحن هنا أمام ما يمكن تسميتها نظرية “الأحضان والانتماء” الأولى عابرة فيما الثانية دائمة، بمعنى أن التنقل بين الأحضان لا يعني التخلي عن الانتماء. والرسالة سياسية واضحة جداً للقادة العرب في جدة، مفادها أنّ سورية جزء أصيل من العروبة، وأنّ محاولة عزلها عملية لن تتكلل بالنجاح، وقمة جّدة خير دليل على ذلك. وتتضمن الرسالة، أيضاً، أنّ انتماء سورية العربي لا يخلّ بشرف الارتماء في الحضن الإيراني، فالبلاد لمن دافع عنها، وهذا يعني إذ يعني أنّ أيّ مطالبة بإبعاد سورية عن إيران مسألة غير واردة في القاموس السوري.
عذراً التعليقات مغلقة