حقائب أموال في دمشق: ماذا تشتري؟

عمر قدور23 أبريل 2023آخر تحديث :
حقائب أموال في دمشق: ماذا تشتري؟

أُخِذ على محمل الفشل تصريحُ فيصل مقداد الذي أقرّ بعدم إمكانية العودة إلى الجامعة العربية، وفيه اكتفى حالياً وزير خارجية الأسد بالعلاقات الثنائية المستعادة مع بعض الدول؛ أهمها بالطبع السعودية. لكن هذا التصريح، المتلطي وراء الحرص على وحدة الجامعة العربية من الخلاف على التطبيع، يعكس فشل الرياض في فرض رؤيتها لإعادة الأسد إلى الجامعة بقدر ما يعكس ارتياح الأسد إلى ما كسبه حتى الآن، وبالتأكيد تفضيله علاقات ثنائية غير مشروطة على عودة مشروطة إلى الجامعة.

هناك خسارة معنوية بفشل عودة الأسد إلى الجامعة العربية كما أرادتها الرياض، ومن المرجح أن الشعور بالخيبة موجود لدى الأخيرة أكثر مما هو لديه. مبعث الخيبة الأهم فشلُ الرياض في تمرير رؤيتها على الدول العربية التي تمانع التطبيع، والأمر يتعلق بمكانة الرياض خليجياً وعربياً أكثر مما بالأسد نفسه، ما يفتح الاحتمالات على إثبات الرياض مكانتها وتأثيرها في ملفات أو بلدان أخرى غير بعيدة عن التنافس الإقليمي. 

من جهتها، تدرك سلطة الأسد مكانة الرياض “منفردةً”، وهي مكتفية بها مؤقتاً، مع عدم استبعاد نجاح الجهود السعودية في جرّ قطار التطبيع لاحقاً. ليس في المكسب المعنوي “بالعودة إلى الجامعة العربية” ما يغري، وفي العديد من المناسبات عبّر الأسد شخصياً عن استهانته بالجامعة، حتى قبل اندلاع الثورة. لكن بالعودة إلى عقود حكم الأسدين من السهل ملاحظة الاهتمام الذي لم ينقطع بالعلاقة مع دول الخليج، ومن السهل على أي سوري فهمُ هذا الاهتمام من خلال المساعدات الخليجية التي لم تتوقف إلا قليلاً خلال تلك العقود. حتى مصر بوصفها الشقيق العربي الأكبر لا تحظى بهذه المكانة، بل حضر غالباً التنافس الأسدي-المصري في الاتجاه ذاته، وربما يكون حاضراً في قلة الحماس المصرية للتطبيع مع الأسد.

أما التحفظ الأمريكي على التطبيع مع الأسد فسيجعله مقتصراً على حقائب النقود الذاهبة إلى دمشق، ويبدو أن الإشارات المرسلة من واشنطن لا تُلتقَط جيداً في العواصم المعنية، أو أن واشنطن “وهذا معتاد جداً” ترسل إشارات متناقضة بحيث يجب استخلاص هامش المسموح بملاحظتها جميعاً. بمعنى أن واشنطن لا تمانع، بل تريد، تطبيعاً ضمن حدود دنيا مع الأسد، لإنقاذه من انهياره الاقتصادي، من دون اتخاذ خطوات تجاهه ذات طابع مستدام. 

من المعلوم أن سلاح العقوبات الأمريكية، بموجب قانون قيصر، بالمرصاد لأية حكومة أو شركة تقرر التعامل مع الأسد في مجالات خارج إطار المسموح به من غذاء ودواء واستثناءات أخرى قليلة. ترجمة ذلك هي أن المساعدات العينية، من غذاء ودواء وما في حكمهما، مسموح بها، وقد تدفق بعضها فعلاً من دول الخليج بعد الزلزال، وبما يفوق المساعدات المعهودة بين الدول في مثل هذه المناسبة. ومن المفهوم أن حجم المساعدات يلحظ التدهور المعيشي تحت سلطة الأسد، ومن المفترض ذهابها إلى المتضررين من الزلزال وإلى الفئات الأشد فقراً، وعلى الأرجح هذا ما أرادته الرياض بالإشارة في البيان المشترك مع وزير خارجية الأسد إلى وصول المساعدات إلى مستحقيها، فلم تكن المساعدات الأممية تحت إشراف مجلس الأمن هي المقصودة.

في الشق الثاني المتعلق بالأموال، يعطي النظام المصرفي العالمي واشنطن إمكانية تعقّب معظم المعاملات البنكية، والقدرة على فرض العقوبات من خلاله، وهناك في العالم من يعتبرون النظام الذي تهمين عليه واشنطن من أشد أدوات قوتها الناعمة تأثيراً. بعبارة أخرى، من غير الممكن عبر هذا النظام إرسال مساعدات نقدية إلى سلطة الأسد، فهو مُعاقَب ومحاصَر على هذا الصعيد، وأية جهة تخترق الحصار معرّضة للعقوبات الأمريكية أيضاً، إذا لم يكن فوراً ففي الوقت الذي تقرره واشنطن. ذلك جعل ويجعل المساعدات المالية الذاهبة إلى دمشق تسلك طريق الحقائب، وقد يبدو هذا مدهشاً ما لم نتذكر أن المليارات الآتية من تجارة الكبتاغون تسلك الطريق نفسه، وجزء ضئيل منها قد يسلك سبلاً أطول وأكثر تعرّجاً ليصبّ في أرصدة خارجية سرية. 

كانت الضجة قد ثارت غداة وصول المساعدات “الخليجية خاصة” التي يُفترض توزيعها على منكوبي الزلزال، إلا أنها ذهبت إلى غير مستحقيها، وشوهدت المواد الغذائية مثلاً تُباع لدى باعة لا صلة لهم بعمليات توزيعها، ما يدل على وجود مافيا تسيطر على التوزيع، وتجني أرباحاً ضخمة من بيع المساعدات الآتية مجاناً. تأقلمَ السوريون “كعادتهم” مع استمرار وصول المساعدات واستمرار المتاجرة بها، والفائدة الملموسة هي توفر السلع أكثر مما كان عليه الحال قبل الزلزال، ما حدَّ من ارتفاع إضافي فاحش للأسعار، فوق الارتفاع الأصلي الذي يفوق القدرة الشرائية لغالبيتهم أيضاً. 

يؤشّر تعاطي سلطة الأسد مع المساعدات العربية، ومن قبلها مع المساعدات الدولية، إلى أن طبيعتها لا تتوافق مع ما هو منتظر من سلطة تتصرف بمسؤولية إزاء رعاياها، أو إزاء مواليها الذين ضحوا من أجل بقائها. هذا ليس بجديد، أو بغريب عمّن قتل ما لا يقل عن نصف مليون سوري، والتذكير به فقط من ضمن سياق تفهُّم ارتياح هذه السلطة إلى الأرباح التي تجنيها حلقتها الضيقة من بيع المساعدات إلى مستحقيها، وارتياحها تالياً إلى أي مكسب لا يترتّب عليها التزامات أو مسؤوليات. 

إذا كان هذا هو حال المساعدات العينية فمن المؤكد أن حقائب النقود تحظى بترحيب أكبر، لأن أرباحها سريعة مباشرة بخلاف التجارة المذكورة سابقاً، ومن المؤكد أن وصولها خارج القنوات الرسمية المعتادة محلّ ترحيب إضافي رغم أن الغَرْف من التحويلات البنكية الرسمية لا يستعصي على الحلقة الضيقة إياها. ولم يكن عفوياً أو اعتباطياً تشبيهنا هذه الحقائب بتلك الواردة من تجارة الكبتاغون، فواحدة من الركائز التي تقوم عليها فكرة التطبيع مع سلطة الأسد هي تخلّي الأخيرة عن تجارة الكبتاغون المضرّة بالعديد من دول المنطقة والعالم، ما يقتضي تعويض أموال الكبتاغون بأموال تغني عنها، ولسخرية القدر تمنع العقوبات الأمريكية وصول التعويض في الأقنية العلنية الشفافة، فيأخذ طريقاً شبيهاً بما يسلكه الإيراد الأصلي. ربما، ليُكمِل الواقع سخريته، تبقى إشارة لا تخلو من إنصاف؛ فإذا كان إيقاف تجارة الكبتاغون في رأس مطالب التطبيع فمن المنطقي ذهاب التعويض إلى تجّاره، وهو ما يحدث حقاً.

المصدر المدن
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل