جسّدت الثورة السورية، التي بدأت في أواسط مارس/ آذار 2011، بالاعتصامات والتظاهرات السلمية المطالبة بالإصلاح وإلغاء أحكام الطوارئ، آمال السوريين من سائر المكونات المجتمعية؛ وذلك بعد عقود من تسطيح العقول والضمائر، وتدجين القوى السياسية، وإفساد المجتمع والدولة، فقد انطلقت هذه الثورة بعد أن انسدّت الآفاق أمام الشباب وتطلعهم الطموح المشروع نحو مستقبل يليق بالسوريين وإمكاناتهم، مستقبل يضمن مقوّمات العيش الحرّ الكريم للأجيال المقبلة. أما ردود أفعال السلطة فقد كانت منذ اليوم الأول هي القمع، وتسويق الأضاليل الخاصة بالربط بين فزّاعة الإرهاب الإسلاموي والمطالب السورية المشروعة، وإطلاق النار على المتظاهرين لترويعهم، وإلزامهم بالتراجع والصمت.
ومنذ البدايات، طالب السوريون بحلّ سياسي وطني، وكانت الحوارات مع ممثلي السلطة في الداخل؛ وما زلنا نتذكّر دعوة المفكر الراحل طيب تيزيني إلى المشروع الديمقراطي المدني السوري، ومطالبته بتحريم سفك الدم السوري، وحديثه عن الفساد والإفساد والاستبداد وضرورة الإصلاح. ولم يكن تيزيني وحيداً في هذا المجال، بل كان مطلب الإصلاح عاماً، حتى إن ممثلي السلطة اضطرّوا إلى الإقرار بضرورته. وجميعنا نتذكر حزمة الإصلاحات المزعومة التي أعلنت عنها المتحدّثة باسم الرئاسة، بثينة شعبان، بصورة هستيرية في بدايات الثورة.
وأذكر، في هذا السياق، أنني تقدّمت في كلمتي أمام لقاء عام جمع بين مثقفين سوريين وأتراك، في إسطنبول في ربيع 2011، باقتراح مفاده تشكيل هيئة وطنية للإصلاح تحكم البلد بقيادة بشار الأسد نفسه، شرط أن تكون له الرغبة والإرادة لتحقيق ذلك. كما اقترحت اسم عارف دليلة بديلا في حال تعذّر قيادة بشار الهيئة المقترحة، إلا أن السلطة الأسدية استمرّت في القتل والتنكيل، اعتقاداً منها بإمكانية الحسم السريع. وما زلنا نتذكّر عبارة “خلصت” التي كان يردّدها باستمرار مسؤولو السلطة المعنية.
استمرّ الجرح السوري مفتوحاً. وعُقدت الصفقات، وتبدّلت الأولويات الإقليمية والدولية مع مرور السنين
وردّا على القمع المتوحّش من السلطة، تحوّلت المطالب الإصلاحية إلى ثورة عامة تطالب بإسقاط السلطة بكل أركانها ورموزها. ومع تشكّل المجلس الوطني السوري في خريف عام 2011 توجّهنا إلى جامعة الدول العربية بحثاً عن الحل العربي، بعد إخفاق محاولات الحل الوطني. ولكن الجامعة هي الأخرى لم تتمكّن من الوصول إلى المطلوب، خصوصا بعد نتائج بعثة المراقبين من الجامعة، برئاسة الفريق مصطفى الدابي في يناير/ كانون الثاني 2012، المخيّبة للآمال. وانتقل الملف السوري إلى مجلس الأمن الذي تعطّل نتيجة موقف كل من روسيا والصين، واستمرارهما في استخدام الفيتو ضد أي مشروع قرارٍ لا يصبّ لمصلحة السلطة الأسدية. وتشكّلت مجموعة أصدقاء الشعب السوري عام 2012، وانعقدت المؤتمرات، وكان بيان جنيف 1 عام 2012 الذي أصبح مرجعية المفاوضات لاحقاً. واستمر الجرح السوري مفتوحاً. وعُقدت الصفقات، وتبدّلت الأولويات الإقليمية والدولية مع مرور السنين. ولكن الدعم الإيراني الروسي للسلطة الأسدية لم ينقطع. وتوزّعت سورية بين مناطق نفوذ تتقاسمها القوات الأجنبية مع المليشيات التابعة لها.
وبعد سلسلة من المصالحات واتفاقيات خفض التصعيد، تراجعت حدّة المعارك إلى حد التوقّف تقريباً، وبدأت محاولات تعويم السلطة روسياً وأخفقت، واستمرّت تلك المحاولات من بعض الدول العربية قبل قمة الجزائر وأخفقت هي الأخرى، ثم كانت محاولات الحكومة التركية، بناءً على احتياجاتٍ داخليةٍ انتخابية في المقام الأول، ولكنها هي الأخرى لم تصل إلى مبتغاها. ويبدو أن المتغيرات الدولية وانعكاساتها على الأوضاع الإقليمية، قد أثّرت على المساعي التركية، فروسيا مشغولة بحربها على أوكرانيا، ومواجهتها مع الغرب، وهي مواجهةٌ كلّفتها الكثير، وستكلّفها الأكثر ما لم تحدُث اختراقاتٌ على صعيد إمكانية الوصول إلى حلٍّ ما يراعي غرورها بعين الاعتبار، ويُقنع الأوكرانيين، ويطمئن الأوروبيين. هذا مع أخذ النزوع الصيني نحو دور سياسي ينسجم مع حجم قدراتها الاقتصادية وإمكاناتها العسكرية في الحسبان؛ وهو الأمر الذي لن يكون سهلاً مع الإصرار الأميركي، المقرون بالإمكانات الاقتصادية والعسكرية والعلمية والتقنية الهائلة، على تصدّر الريادة العالمية، مع إبداء بعض المرونة من جهة القبول ببعض التفاهمات مع الصين وغيرها تضمن مصالح الأخيرة، شرط أن لا تشمل الندّيّة القطبية إذا صحّ التعبير.
مختلف الأطراف الدولية والإقليمية المعنيّة بالموضوع السوري ومدى تأثره بالدور التركي، في انتظار نتائج الانتخابات التركية العامة
وتجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى أن الحرب الروسية على أوكرانيا قد منحت تركيا مكانة خاصة في الحسابات الجيوسياسية والاقتصادية، وربما هذا ما يفسّر وقوف روسيا إلى جانب تركيا، أخيرا، في رفض شروط بشّار الأسد بخصوص التطبيع. هذا في حين أن لإيران حسابات أخرى، فهي تحاول استغلال الانشغال الروسي لتعزيز نفوذها في المناطق السورية الخاضعة لسلطة بشّار، بل وحتى في مناطق أخرى في شرق الفرات التي تسيطر عليها قوات حزب العمّال الكردستاني عبر واجهاته السورية بحماية غربية أميركية في المقام الأول. ومن الواضح أنها تُحاول استغلال اتفاقها أخيرا مع السعودية، برعاية صينية، حول تطبيع العلاقات، في محاولة شرعنة وجودها في سورية، عبر تعويم سلطة بشّار الأسد عربياً. ولبلوغ ذلك، نصحت الأخير بالمطالبة بانسحاب القوات التركية من الأراضي السورية قبل التوقيع على أي اتفاقٍ بتطبيع العلاقات.
ومن الجلي أن مختلف الأطراف الدولية والإقليمية المعنيّة بالموضوع السوري ومدى تأثره بالدور التركي، في انتظار نتائج الانتخابات التركية العامة التي ستجري في أواسط الشهر المقبل (مايو/ أيار)، فروسيا ترغب في إعادة انتخاب رجب طيب أردوغان رئيساً؛ بينما يبدو أن الدول الغربية، ولا سيما الأميركيين، أميل إلى المعارضة، هذا رغم عدم وجود تصريحاتٍ صريحةٍ بذلك. وربما كان هذا هو توجّه كل من إيران والسعودية أيضاً، ولكن من مواقع مختلفة وبناء على حسابات وأولويات متباينة، لها علاقاتٌ بمقارباتٍ عديدة في أكثر من مكان، منها على سبيل المثال: أذربيجان وليبيا وسورية والعراق وغيرها.
في هذه الأجواء الملبّدة بالغيوم القاتمة على المستويين العالمي والإقليمي، جاءت دعوة السعودية وزير خارجية النظام في سورية، فيصل المقداد، في 12 أبريل/ نيسان الجاري، بهدف إجراء مباحثاتٍ تسبق اجتماع دول مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة إلى كل من مصر والعراق والأردن، في 15 من الشهر نفسه، للبتّ في موضوع تفعيل عضوية سلطة بشّار الأسد في جامعة الدول العربية بعد عملية التعليق التي كانت في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011. وقد كرّس البيان المشترك، الذي صدر في أعقاب زيارة المقداد جدّة، حيث التقى مع وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، انطباعا لدى مراقبين عديدين، وفي أوساط السوريين، مفاده بأن موضوع تفعيل العضوية المعنية بات في عداد تحصل الحاصل، سيما أن البيان المشار إليه اكتفى بمصطلح التسوية السياسية من دون التطرّق إلى الحل السياسي. كما تجاهل القرار الأممي 2254 الخاص بالحل السياسي في سورية. وأغفل ذكر بيان جنيف 1 عام 2012 بوصفه مرجعية القرار الأممي، خصوصا في الجانب الذي يتعلق بموضوع تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، كما فُهم من البيان أنه أقام صيغةً من التماهي بين الدولة السورية والسلطة الأسدية.
الكارثة الإنسانية المستمرّة في سورية منذ نحو 12 عاماً لن تُعالَج بتسوية سريعة هنا أو صفقةٍ عابرة هناك
أما البيان الذي أصدرته الخارجية السعودية في أعقاب اللقاء التشاروي غير الرسمي، لوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن، فقد تجاوز ثغراتٍ عديدة تضمّنها البيان الأول، وركّز على أولوية الحل السياسي؛ كما أنه لم يعط الانطباع بوجود صيغة من التماهي بين الدولة السورية والسلطة المشار إليها. ومن الواضح أن مواقف بعض الدول المشاركة في الاجتماع قد أثرت في طريقة صياغة البيان وتحديد أولوياته. ويشار هنا بصورة خاصة إلى موقف الدوحة الذي عبّر عنه رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في مقابلته مع تلفزيون بلاده قبل الاجتماع؛ إذ بيّن بوضوح أن الأسباب التي دعت إلى تعليق عضوية السلطة الأسدية في الجامعة ما زالت قائمة. والجدير بالذكر هنا أن هذا الموقف إنما استمرارية للموقف القطري المعروف، والذي أكّده أمير قطر في مختلف المناسبات، خصوصا أمام الجمعية العامة للأم المتحدة في نيويورك، حيث دعا كذلك إلى اعتبار بيان جنيف 1 وقرار مجلس الأمن 2254 بمثابة مرجعية لأي حل. وقد أثار إغفال هذه المرجعية في بيان جدة أكثر من تساؤل.
بقي أن نقول إن الكارثة الإنسانية المستمرّة في سورية منذ نحو 12 عاماً لن تُعالَج بتسوية سريعة هنا أو صفقةٍ عابرة هناك، وإنما بحلٍّ سياسي يضمن المعالجة السبببة لا العرضية لجذور المشكلة، فالوضع الإنساني المؤلم الذي يعيشه السوريون عموماً في جميع مناطق النفوذ التي تتوزّع سورية بينها راهناً؛ وملفّ المخدّرات الذي أصبح من سمات سلطة بشار، وكذلك الإرهاب الذي أوجدته تلك السلطة، بالتنسيق مع راعيها الإيراني؛ جميع هذه الملفات وغيرها لن تُعالج كما ينبغي ما لم يكن هناك حلٌّ سياسي مقنع، يطمئن سائر السوريين، ويؤدّي إلى انسحاب كل الجيوش والمليشات بأسمائها وشعاراتها الكثيرة من سورية؛ وأمرٌ من هذا القبيل سيمكّن سورية من استعادة وحدتها شعباً وأرضاً، وسيُساعدها على امتلاك سيادتها، لتكون قرارات حكومتها الشرعية المقبلة في مصلحة شعبها بكل مكوّناته وتوجّهاته، ومن دون أي استثناء.
Sorry Comments are closed