هناك ظن شائع بين السوريين، مفاده أن الأسد سيخدع العرب الراغبين بالتطبيع معه، وسيقدّم وعوداً لن يتأخر عن التنصل من تنفيذها. هكذا يكون قد حصل على مليارات الدولارات الموعودة من دون تقديم أي تنازل، وكسب مع المليارات إحراج القادة العرب المطبِّعين معه، وإظهارهم في موقع الغفلة.
يستند هذا الظن إلى أن الأسد غير قادر على “أو غير راغب في” تنفيذ بنود المبادرة العربية كما تم تسريبها، فهو غير قادر على تحجيم النفوذ الإيراني، ولن يقبل بقوات عربية تواكب عودة اللاجئين وتحميهم، وتعامله المهين مع بعثة المراقبين العرب في أول الثورة دليل على ما ينتظر القوات العربية في حال وافق على إدخال بعثة مراقبين منها.
لكي يخدع الأسد أولئك القادة العرب ينبغي أن نسيء الظن إلى أبعد حد بقدراتهم الذهنية، وبقدرات وزرائهم ومستشاريهم، بحيث أننا نتداول كل السوابق التي نكث فيها الأسد بوعوده، أما هم فتغيب عنهم السوابق ويقعون في الحفرة ذاتها المرة تلو الأخرى! لكن، في المقابل، سيبدو كأن هناك تناقضاً بين معرفتهم بما سيفعله الأسد وإقدامهم على التطبيع معه، وهناك مثال قريب هو الأردن الذي بادر إلى فتح حدوده مع الأسد، لتبدأ معاناته مع تدفق الكبتاغون الذي يستهدف أبناءه ثم يواصل سيره إلى دول الخليج.
ربما، لحلّ هذا التناقض، يلزم أن نتذكر أن بضع مليارات من الدولارات هو رقم ضخم سورياً، بينما ليس له القيمة ذاتها لدى دول الخليج المانحة، وسبق لهذه الدول أن قدّمت المليارات للأسد الأب والابن، حتى أن تدفقها كان هو القاعدة لا الاستثناء منذ عام1973 لغاية عام2011. خلال العقود الثلاثة الأخيرة من تلك المدة، كان النفوذ الإيراني يتفاقم في سوريا ولبنان الذي تحت الوصاية، من دون أن تتأثر المساعدات الخليجية.
في الأخبار الأخيرة أن ملك السعودية دعا الرئيس الإيراني إلى زيارة بلده، ما يستبق اللقاء المزمع بين وزيري خارجية البلدين وإعادة فتح السفارات. العلاقات الإماراتية-الإيرانية هي في الأصل واسعة ومتشابكة، على صعيدَي الاقتصاد والسياسة، مع تأكيد طهران على أنها تطورت مؤخراً. وإذا أخذنا في الحسبان قيادة الإمارات التوجهَ نحو الأسد، يصعب تصوّر أن يكون أحد شروط الإمارات الفعلية إبعاده عن نفوذ طهران. لعل المنطق يدفعنا إلى افتراض مغاير تماماً، حيث يقع التطبيع مع الأسد ضمن تموضع جديد للعلاقات الخليجية-الإيرانية.
التطبيع الخليجي مع إيران، إذا كُتب له النجاح، يبدو أيضاً ضمن نهج خليجي أعمّ. كنا قد شهدنا قبله إعادة العلاقات بين أنقرة والرياض وأبو ظبي والقاهرة، وإذا ظهر ذلك بتوجه جديد من أردوغان فحدوثه لم يكن وارداً لولا استعداد تلك العواصم لملاقاته، ولا بأس بالتذكير بأن توجه أردوغان نفسه اقترن بانفتاحه على الأسد. بإضافة التطبيع مع تل أبيب أو الدنوّ منه، تكون العواصم ذاتها قد انفتحت على القوى الإقليمية الثلاث الكبرى في المنطقة، تركيا وإيران وإسرائيل، مع ملاحظة أن هذه القوى منخرطة بدأب في الشأن السوري.
الغرب، واشنطن على نحو خاص، لا يعلن صراحة موقفاً مؤيداً أو معارضاً التطبيع مع الأسد، رغم التزام الدول الأربع المؤثرة في بيانها “في ذكرى الثورة” بعدم التطبيع معه إلا وفق الشروط القديمة المعروفة المتعلقة بتقدم في العملية السياسية…إلخ! لكن يُفهم على نطاق واسع أن عدم معارضة الغرب تعني موافقته الضمنية على تطبيع العرب مع الأسد، وموافقته على منح الأخير مليارات الدولارات، رغم إدراكه أيضاً أنها ستُدفع بلا مقابل سياسي، إذا كان ثمة أصلاً وعود بتقديم مقابل.
ربما تقع الموافقة الغربية فيما دون السياسة، وبذلك لا تكون أكثر من استئناف للتساهل في العقوبات الغربية بعد الزلزال. في الواقع للغرب مصلحة في ضخ تلك المليارات في اقتصاد الأسد، وفي طليعة الأسباب أن موجة لجوء جديدة إلى الغرب بدأت فعلاً انطلاقاً من مناطق سيطرة الأسد، ومن المرجح تصاعدها في حال استمرت الكارثة المعيشية، وهناك بلدان غربية متضررة من شحنات الكبتاغون الواردة من المصدر ذاته، وفي المحصلة لا يكون هناك مانع من ضخّ المساعدات مقابل وقف ضخّ الكبتاغون واللاجئين فحسب.
هي عملية مضبوطة من جهة الغرب ما دامت العقوبات الأمريكية خاصةً مسلَّطة، فأشدّ المتحمسين العرب للتطبيع مع الأسد لن يغامر ويخرق العقوبات متى لوّحت واشنطن بها. لذا قد لا تتجاوز المساعدات الجانب الإغاثي المباشر، وتمويل بعض الإصلاحات الحيوية والملحّة جداً، بشرط أن لا يندرج ذلك ضمن إعادة الإعمار الممنوعة وفق العقوبات الغربية.
لكي لا نهوّل من استقبال بشار الأسد في الإمارات، وقبلها في موسكو وعُمان، فضلاً عمّا يظهر من استعجال تركي للقائه؛ من الضروري تذكّر أن هذا كله محكوم بسقف أمريكي لا يستطيع هؤلاء تجاوزه. ومثلما لا يستطيع العرب تجاوز سقف العقوبات، سيكون الانفتاح التركي محكوماً بقرار واشنطن إبقاء قواتها ومظلتها العسكرية في شرق الفرات، لأن القوات التركية لن تنسحب من مناطق سيطرتها ما لم يسترد الأسد سيطرته على مناطق الإدارة الذاتية.
من الحصافة الظن أن القادة العرب يدركون ما سبق، ويعرفون الحدود التي يستطيعون التصرف ضمنها، وأنهم بدورهم لا يراهنون على تغيير يُعتدّ به في سلوك الأسد. نستطيع أن نعزو حماس البعض منهم إلى معاداة أصيلة للربيع العربي، ولشبهة الثورة أينما وُجِدت، لتكون الحفاوة بالأسد تشفّياً بمناصري الحرية، إلا أن هذا يبقى هامشياً بالقياس إلى مجمل المستجدات في المنطقة، ومنها الصمت والغموض حيال الملف النووي الإيراني ومصير مفاوضاته بعد أن كان في مقدمة اهتمام واشنطن ومعظم حكام المنطقة!
يراهن العرب والغرب، بلا أوهام، ببضع مليارات من الدولارات، ومن “الغبن” تصويرهم سلفاً كمستغفَلين. ربما تكون المفاجأة بالنسبة لهم، كما بالنسبة لنا، أن يلاقي الأسد مبادرتهم بما يتعدى دعوة مزيد من القوات الروسية إلى سوريا، أو التندر على الرئيس الأوكراني زيلينسكي ووصفه بالمهرّج.
Sorry Comments are closed