المصائب من مصادر الألم والمعاناة الإنسانية، سواءٌ لمن وقعت به أو طالته أم لمن صار يعايشها عن بعد؛ بفضل التغطيات الصحفية المباشرة ووسائل التواصل الاجتماعي. ولفظ المصائب يشمل الأحوال المكروهة نحو الآلام والأسقام والقحط والغرق والصواعق والزلازل وغير ذلك.
كنت قد كتبت مطولاً عن أخلاقيات الأوبئة خلال وباء كورونا، وأجدني الآن مدفوعًا للكتابة عن أخلاقيات الألم والمعاناة بعد الزلزال الهائل الذي أصاب أجزاء من منطقتنا وخلّف الآلاف من الضحايا والمكلومين وأباد عائلات ومدنًا كاملة، رحم الله من قَضى فيه وجبر مصاب من بقي.
الكبَد والمعاناة والمشقة تلازم الإنسان سواء في أطوار خلقه وحياته، أم في دينه من خلال صبره على المحن والشدائد، وفي مكابدته للشكر في السراء، أو في آخرته حين يواجه الجزاء والحساب
أوضحت في مقال الأسبوع الماضي سعة تصور علمائنا لظاهرة الزلازل، وأنه يمكن أن نميز في كتاباتهم ذات الصلة بين ثلاث مقاربات: علمية وفقهية وأخلاقية، وأوردت ذلك بقصد بيان قصور من فسّر الزلزال الذي وقع مؤخرًا بأنه عقوبة إلهية. وإذا كان المقال السابق قد سلك في سبيل فكرته مسلكًا اتكأ على مسائل منهجية تتصل بعلمي الفقه والحديث، فإن هذا المقال سيسلك مسلكًا مغايرًا يؤسس لما أسميته “أخلاقيات الألم والمعاناة”، وذلك بهدف توسيع مدارك النظر إلى المصائب عامة وما تورثه من آلام، وبيان قصور فكرة العقوبة من منظور أخلاقي؛ حيث الألم والمعاناة يستدعي أخلاقيات خاصة بعيدًا عن الرؤية القاصرة للعقوبة التي تنطوي على فكرتي استحقاق الضحية لما حل به، ولومه لأجل ذلك أيضًا.
وسأناقش هنا محورين رئيسين:
- في الأول سأوضح ثراء مفهوم الألم وصلته بحقل الأخلاق،
- وفي الثاني سأبين كيف أن تناول المصائب من منظور اللطف الإلهي هو الأسلم للوفاء بسعة مفهوم الألم، ولتناول أخلاقيات الألم والمعاناة.
أولاً: مفهوم الألم وصلته بحقل الأخلاق
“لقد خلقنا الإنسان في كَبَد”؛ فالكبد والمعاناة والمشقة تلازم الإنسان سواء في أطوار خلقه وحياته، أم في دينه من خلال صبره على المحن والشدائد، وفي مكابدته للشكر في السراء، أو في آخرته حين يواجه الجزاء والحساب. بل إن الإمام فخر الدين الرازي ذهب أبعد من ذلك إلى أنه “ليس في هذه الدنيا لذة البتة”؛ إذ ما يُظن أنه لذة ما هو إلا خلاص عن الألم؛ فما يُتَخيل من اللذة عند الأكل هو خلاص من ألم الجوع، وما يُتخيل من اللذات عند اللبس هو خلاص عن ألم الحر والبرد، أي أنه “ليس للإنسان إلا ألم أو خلاص عن ألم وانتقال إلى آخر”، ومن ثم صنف كارل ياسبرز (Karl Jaspers، ت. 1969) الألم ضمن المواقف الفاصلة (boundary situations) كالموت والمرض والذنب التي يصاب فيها الإنسان بالقلق والهلع، ويُدرك بها مكامن القصور في ذاته. وتتضمن هذه المواقف جانبين:
- الأول: نفسي؛ إذ يقوم على البحث عن الدعم النفسي في حالة الألم وغيره من “المواقف الفاصلة”. فقد يصاب الإنسان بالهلع والقلق وقد يشعر بالخذلان، الأمر الذي يزيد من ألمه، وقد أشار القرآن إلى نحو هذه الحالة بقوله: “وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ”.
- الثاني: فلسفي يتصل بموقف وجودي؛ إذ قد يدفع الألم وغيره إلى الانتقال من مرتبة إلى مرتبة وجودية مفارقة للمرتبة الأولى السابقة على الألم، وهو انتقال محكوم برؤية غائية تضفي على الوجود الجديد معنى مغايرا؛ بفضل الخبرة الجديدة التي اكتسبها الإنسان بمعايشة المصيبة أو الألم الناتج عنها.
فالألم لم يَعد قاصرًا على الرؤية المرضية وفق المنظور الفيزيولوجي أو المادي الضيق؛ بل بات يتصل بعوالم متداخلة من الفكر والروح والجسد، ويشترك في مناقشته حقول علمية متنوعة كما سأوضح.
ويمكن تصنيف الألم الذي هو ضُرّ أو مفسدة إلى نوعين رئيسين:
- الأول: ما يتسبّب فيه الإنسان إما لنفسه أو لغيره، وهو ما تعرض له الفلاسفة والمتكلمون؛ لأن الإيلام فعلٌ خاضع لنقاشات أخلاقية عديدة، بل إن ذبح الحيوان إنما جرت مناقشته من هذا الباب؛ لأنه نوعُ إيلام حيٍّ. والنقاش في النوع الأول من الألم أقربُ إلى أخلاق الأفعال؛ إذ إنه يتعلق بكسب الإنسان، كما أن الواجب الأخلاقي فيه مقاومته أو إزالته أو التخفيف منه على أقل تقدير إن لم يمكن إزالته كلية.
- الثاني: ما يقع بفعل الله عز وجل في كونه، ويتصل بفعل الله القدريّ أو التكويني الذي يتصل بنظام الخلق، ومنه ما يحدث نتيجة الكوارث الطبيعية كالزلازل. وهذا النوع الثاني يتصل بأخلاق الفضيلة، إذ إننا نتحدث هنا عن ألم لا يمكن دفعه في الغالب؛ وإن أمكن جزئيًّا تلافيه أو التخفيف من آثاره، كما في حالة التنبؤ بحصول كارثة ما، أو الأخذ ببعض إجراءات السلامة أثناء وقوع كارثة ما.
فالألم إذن مبحث أخلاقيّ؛ لأنه يتناول أفعال الإنسان وصفاته الخُلقية (الفضائل والرذائل)، ولأنه أيضًا يثير العديد من الأسئلة الأخلاقية والفلسفية والكلامية التي تتصل بالعدل الإلهي، وأسباب وقوع الكوارث وما ينتج عنها من ألم ومعاناة، والسؤال عن أسباب وجود الشر والحكم والمصالح الكامنة وراءه، وتطبيقات الإيمان بالقضاء والقدر.
هذه كلها أسئلة تتصل بحقلي الأخلاق، سواء النظرية أم التطبيقية؛ لأن الإجابة عن هذه الأسئلة ستنعكس على صفات الإنسان الخلقية وسلوكه في مواجهة المصائب، سواءٌ أصابته أم أصابت غيره. فالمصائب من الأمور التي تؤثر في تفكير الإنسان ووجدانه وحياته الروحية وتستدعي استجابة معينة لها، ومن هنا اتصل مبحث المصائب اتصالاً وثيقًا بعلاقة الإنسان بربّه وبالفضائل الواجبة في ذلك، كالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء، وبالرذائل كذلك كالجزع والتسخط بالقضاء، كما اتصل اتصالاً وثيقًا بعلاقة الإنسان ببني جنسه، حيث تظهر “رقة الإنسانية” التي هي من أخص خصائص الإنسان.
ولأجل ما سبق، انشغلت حقول وتخصصات عدة بمبحث الألم والمعاناة؛ فهو مبحث من مباحث الأخلاق التي هي نفسها حقل متعدد التخصصات. من تلك الحقول التي تسهم هنا: القرآن والحديث والكلام والفقه والتصوف والفلسفة والأدب، بل مما له إسهام في هذا النقاش الأخلاقي حول الألم والمعاناة أيضًا حقول أخرى خارج حقل الدراسات الإسلامية، كحقل الأخلاق الطبية وعلم النفس. فهذه المجالات جميعًا تغطي جوانب مختلفة من الألم؛ نظرًا لأنه ظاهرة إنسانية معقدة، وتتعدى تأثيراته المنظورات الضيقة لفكرة العقوبة الإلهية التي يلجأ إليها الوعاظ عادة في مثل هذه المناسبات.
ومن المهم هنا ملاحظة سعة وثراء الأدبيات الإسلامية التي تعالج مبحث الألم والمعاناة -استقلالاً- في كتب ورسائل مفردة، كما نجد -مثلاً- لدى ابن أبي الدنيا (281هـ) في “العزاء والصبر”، والمبرد (286هـ) في “التعازي”، وابن أبي غالب الخفاف (543هـ) في “سلوة الأحزان”، وعلاء الدين بن منصور المقدسي (746هـ) في “اللباب في تسلية المصاب”، وابن قيم الجوزية (751هـ) في “عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين”، وغيرهم الكثير.
لكن مصادر أخلاقيات الألم والمعاناة لا تقتصر على هذا النوع المفرد من التصنيف، بل تمتد لتشمل مباحث من حقول علمية متعددة داخل الدراسات الإسلامية وخارجه كما سبقت الإشارة، والبحث فيها لا يقتصر على مفهوم أو مفردة بعينها؛ إذ إننا هنا أمام قاموس ثري يتضمن مفردات تخص الظاهرة نفسها كالألم، والمعاناة، والمحن، والبلايا والرزايا، والمصائب، والوباء، كما يتضمن مفردات أخرى تركز على سلوك الإنسان وواجباته الأخلاقية تجاه الظاهرة، كالتعازي، والصبر، والشكر، والسلوان والتسلي، وكشف الكربة، أو تركز على فضائل معينة لمن أصيب ببلاء محدد كفقد الأولاد الذي صنف فيه عدد من العلماء.
ثانيًا: الألم من منظور اللطف الإلهي
للإمساك بهذا المفهوم الواسع للألم والمعاناة، لا بد أن نتجاوز سطح النقاشات الخاصة بالسؤال الذي عالجته في مقال الأسبوع الماضي حول: “هل المصائب عقوبات على ذنوب سلفت؟”؛ فالوقوف عند ظاهر الخلاف وحجج كل فريق قد يحجب عنا هذه الرؤية التركيبية للألم والمعاناة؛ لأننا سنقف عند حدود حِجاج كل طرف عن موقفه، فمن رأى أنها ليست عقابًا حاجج -إضافة إلى الأدلة النصية- بأمرين:
- الأول: مفهوم الجزاء، وأن الدنيا دار تكليف، والآخرة هي دار الجزاء.
- والثاني: الاحتكام إلى الواقع، فالمصائب يشترك فيها الزنديق والصدّيق، بل حصول المصائب للصالحين والمتقين أكثر منه للمذنبين.
ومن ثم خلص إلى أن المصائب تتنوع أسبابها وحكمها بين الامتحان والعقوبة وغيرهما. أما من حاجج بأن المصائب عقوبات، فقد حشد لذلك بعض النصوص العامة، وبعض الأحاديث الخاصة التي لا تصح مما أوضحته في المقال السابق.
ولكن بعيدًا عن النظر الظاهري لهذا الخلاف ومداخله المنهجية التي تناولتها سابقًا، فإن النظرة المعمقة للنقاش تضعنا أمام منظورين متغايرين:
- الأول: يغلّب جانب العقوبة والجزاء، وقد شرحت أوجه الإشكال فيه في المقال السابق من الناحيتين الحديثية والفقهية، وكيف أنه يعاني من مشكلة رئيسة هي الانتقال من عموم النصوص الدالة على العقوبة إلى الحكم على معيّن بأنه إنما عوقب لأجل ذنوبه، وهو ادعاء وتقوّل على الله بغير علم.
- الثاني: يغلّب جانب اللطف، ويتمحور حول أحاديث البلاء والرحمة والخير التي أشرت إليها في مقال الأسبوع الماضي، ويجعلها أصلاً يُبنى عليه. فالله تعالى يجرّع عباده من كأس البلاء على قدر قربهم منه، والمبتلى قد شمّ أريج العناية الربانية بحسب جلال الدين الرومي. فالألم هنا أمارة على سموّ مكانة العبد عند الرب سبحانه، ويلزم من هذا أن من لا ألم له كالميّت يتحرّك في نعش جسده؛ فالألم لم يعد أمارة الحياة الجسدية فقط بل والقلبية والروحية أيضًا. ألا ترى أن المحب كلما ازداد حبًّا ازداد ألمًا، بل إنه يستعذب ألمه!
فمنظور اللطف هو الذي يفي بسعة مفهوم الألم كما سبق شرحه، وسأوضح ذلك من خلال مسألتين: الأولى: ملامح سعة مفهوم الألم في نصوص القرآن والحديث النبوي، والتداخل بين التعبدي والأخلاقي في المنظور الفقهي لمسألة المصائب.
المسألة الأولى: ملامح سعة مفهوم الألم في نصوص القرآن والحديث النبوي
يوضّح القرآن أن إرسال الآيات مرتبط بحِكم. فالآيات الكونية -مثلاً- تنطوي على عظة خلقية للبشر “وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا”، وفهم ابن تيمية وغيره أن الزلازل والكسوف من هذه الآيات التي تنطوي على حِكم تستهدف صلاح الإنسان في الدارين، والتذكير والتخويف تَعُم الحاجة إليهما لتحقيق غايات أخلاقية، سواء وقعت المصائب أم لا، وسواء وقعت بنا أم بغيرنا.
ومن شأن تلقي هذه العظة التي انطوت عليها المصائب أو الكوارث أن يورث في النفس أحوالاً نفسانية وتغيرات وجودية بالمعنى الذي شرحته سابقًا، كالخوف والخشية والإنابة والإقلاع عن المعاصي والتضرّع إلى الله سبحانه، والندم والاستغفار، والزهد في الدنيا والتقاعس عن التكالب عليها، وردّ المظالم إلى أهلها وغير ذلك. وقد نبّه القرآن إلى نحو هذه الاستجابة الواجبة في البأساء، فقال: “فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”، وقال: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ”.
والابتلاء محنة قد تنطوي على منحة، فالمصائب ليست شرًّا خالصًا؛ لأنها تنطوي على خير وعلامة قرب ومنحة لرفع الدرجات، وهو ما أفادته آيات وأحاديث عديدة أشرت إلى بعضها في مقال الأسبوع الماضي، ومن أبرزها: حديث “من يُرد الله به خيرا يُصب منه”، و”إن من أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”، و”إذا أحب الله قوما ابتلاهم، فمن صبر، فله الصبر، ومن جزع فله الجزع”. فهذه الأحاديث تصوغ مفهومًا واسعًا وجديدًا للابتلاء والألم الذي هو خيرٌ ودال على حكمة الله من جهة، وعلى تربيته للإنسان من جهة أخرى.
وقد جاء في الحديث: “عجبت لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير؛ ليس ذلك لأحد إلا للمؤمن. إنْ أصابته سراء شكر وكان خيرا، وإن أصابته ضراء صبر وكان خيرا” (رواه أحمد وغيره)؛ فهذه المحن وسيلة لترقي المؤمن إصلاح علاقته بالله تعالى وللترقي الأخلاقي وإحداث التغيير في النفس.
حصول لذات الدنيا سبب للألم الشديد بعد الموت، وعدم حصولها سبب للسعادة الشديدة بعد الموت، فكيف يقال: إن وجدان الدنيا سعادة وفقدانها شقاوة؟ فاتضح بذلك أن التعود أو كثرة الممارسة يؤكد المحبة، وتأكد المحبة سبب لتأكد الألم عند الفراق، ومن ثم فلا معنى للقول: إن الابتلاء بضيق العيش إهانة!
وللمؤمن خصوصية هنا؛ بوصفه لا بشخصه، أي أن الإيمان يعين على تلقي الرسائل والوقوف على معان، والتخلق بصفات حاملة له على الترقي بدل التسخط، خصوصًا أن أثر الألم لا يختلف فقط بحسب درجته، وإنما يختلف بحسب طبيعة الشخص الذي يتلقاه، وهنا يظهر أثر الإيمان وفضائل النفس وسماتها الأخلاقية. فالمصائب قد تدفع إلى الصلاح واستكمال نواقص النفس، وتجلو القلب وتستنزل الرحمة، وتزيل الغفلة عن الله، وتقرب منه سبحانه “وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا”، وتصقل النفس السارية إلى الله فلا يفجؤها الموت فيما بعد؛ لأنها خبرت ألوانًا ودرجات منه؛ فالموت موتات، منها النوم والألم.
ينطوي هذا المفهوم الواسع للألم أيضًا على بعد آخر وهو الأثر الذاتي فيه؛ إذ إن كمال الإيمان لا يسوق في المصائب إلى الصبر والتسليم فقط، بل إلى الرضا والشكر أيضًا، وهي مرتبة أعلى من مقام الصبر، وهذا ينقلنا من النقاش حول الوجود الموضوعي للألم إلى البعد الذاتي للألم الذي يختلف باختلاف الأشخاص، بين متألم ساخط، ومتألم صابر، ومتألم راض لا يشهد في عذابه إلا عذوبة ومنحة؛ لأنه لا يشهد فيه إلا الامتحان والترقي الروحي لأجل مزيد من القرب “وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ”. وكل هذه المعاني تجعل من الألم ألصق بمباحث أخلاق الفضيلة؛ إذ الألم سينعكس على صلاح الإنسان في الدنيا من حيث كمال نفسه وغرس الفضائل فيه، وعلى العوض في الآخرة من تكفير الخطايا ورفع الدرجات.
ثم إن تجاوز منظور العقوبة إلى منظور اللطف الإلهي في الحديث عن المصائب، يساعدنا على تجاوز “ظاهر الحياة الدنيا” الذي ذم القرآن الاقتصار عليه. فمن تَسَخط في المصائب وظن أن الله أهانه فظنه خاطئ له نظائر في القرآن كمن علم ظاهرًا من الحياة الدنيا، أو عبَد الله على حرف. يقول الله تعالى: “وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ”، ويقول: “يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ”، ويقول: “وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ”.
توضح هذه الآيات أنماطًا مختلفة من استجابة البشر في المصائب، وهي استجابات كاشفة عن الفضائل والرذائل معًا، فالآيات وهي توضح أنماط الاستجابة السيئة تصوغ ضمنًا الاستجابة النموذجية التي على الإنسان أن يرتقي إليها، والمصائب تُكسبه تلك الخبرة لترويض نفسه، وهذا النوع من الترقي يردنا مجددًا إلى أخلاق الفضيلة، ويضعنا في صلب أخلاقيات الألم والمعاناة.
انشغل الإمام فخر الدين الرازي ببيان وجوه خطأ تلك الاستجابات المختلفة التي سميتها رذائل في سياق تفسيره لآية “فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ”، وأوضح أن من ينكر البعث يَلزمه القطع بأن وجدان الدنيا هو السعادة وفقدانها هو الشقاوة. أما من يؤمن بالبعث فعليه أن يتنبه إلى وجوه عدة تبين له خطأ مثل ذلك الظن بأن الابتلاء إهانة، وهي:
- الأول: أنه لا وجه للمقارنة بين الدنيا والآخرة. فسعادة الدنيا وشقاوتها ما هي إلا قطرة في بحر سعادة وشقاوة الآخرة، والتنعم والشقاوة مفهومان لا يجري الحكم فيهما بمجرد النظر إلى الدنيا بمعزل عن الآخرة. فلو شقي في الآخرة ذلك المتنعم في الدنيا، لم يكن متنعمًا على الحقيقة، ولو سعد في الآخرة ذلك المتألم المحتاج في الدنيا، لم يُسمّ تألمه في الدنيا إهانة ولا شقاوة.
- الثاني: أن مجرد حصول النعمة في الدنيا وحصول الآلام في الدنيا لا يدل على الاستحقاق؛ فإنه تعالى كثيرا ما يوسع على العصاة والكفرة لأغراض مختلفة، فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وهو سبحانه يحكم بما فيه مصلحة للعبد، وقد يفعل ذلك على سبيل الاستدراج. ثم إنه سبحانه قد يضيق على الصديقين لأضداد ذلك، ومن ثم لا ينبغي للعبد أن يظن أن وقوع البلاء هو لأجل المجازاة.
- الثالث: أن الأمور بخواتيمها؛ فالمتنعم في الدنيا مدة لا ينبغي أن يقضي على نفسه بذلك مطلقا؛ فالحكم بالتنعم أو غيره لا يكون إلا بعد النظر إلى العاقبة والخواتيم، ثم إن الفقير والمحتاج لا ينبغي أن يغفل عما لله عليه من النعم التي لا حد لها من سلامة البدن والعقل والدين ودفع الآفات والآلام التي لا حد لها ولا حصر.
- الرابع: أنه لا يجوز القضاء بالشقاوة والإهانة عند عدم الدنيا؛ فالنفس إذا أَلِفت المحسوسات وحصّلت المشتهيات واللذات، صعُب عليها الانقطاع عنها وعدم الاستغراق فيها، وإذا لم يحصل للإنسان شيء من تلك المحسوسات رجعت نفسه -شاءت أم أبت- إلى الله، واشتغلت بعبودية الله، فكان وجدان الدنيا سببا للحرمان من الله، مع أن ذلك أعظم الوسائل إلى أعظم السعادات.
- الخامس: أن حصول لذات الدنيا سبب للألم الشديد بعد الموت، وعدم حصولها سبب للسعادة الشديدة بعد الموت، فكيف يقال: إن وجدان الدنيا سعادة وفقدانها شقاوة؟ فاتضح بذلك أن التعوّد أو كثرة الممارسة يؤكد المحبة، وتأكد المحبة سبب لتأكد الألم عند الفراق، ومن ثم فلا معنى للقول: إن الابتلاء بضيق العيش إهانة!
المسألة الثانية: الرابط بين تفاصيل قد تبدو لا يجمعها جامع، في حين أنها خادمة لمنظور اللطف
بناء على المفهوم الواسع للألم من منظور اللطف الإلهي، ندرك الرابط بين تفاصيل قد تبدو لا يجمعها جامع، في حين أنها خادمة لمنظور اللطف، وبيانها كالآتي:
- أولاً: الإيمان بالقضاء والقدر والتنقل بين حالي الصبر والرضا، وسبق في مقال الأسبوع الماضي عن الحسن أن من أخلاق المؤمن أنه “في الزلازل وقور، وفي الرخاء شكور قانع بالذي له”. وهنا يتداخل النظري (الاعتقادي) مع العملي (الفقهي)، حيث يتقاطع المبحث الكلامي مع النظر الفقهي والأحوال والمقامات الصوفية.
- ثانيًا: بعض التفاصيل الفقهية قد تبدو مسائل تعبدية محضة، ولكنها تنطوي على مضامين أخلاقية تتجاوز الأفق الضيق لبعض الوعاظ في النظر إلى الزلازل والمصائب على أنها عقوبة، فحين نقرأ تلك التفاصيل من منظور أخلاقيات الألم والمعاناة تصبح ذات مغزى، فكون المصائب آية تنطوي على عظة وتحمل على إحداث تغيير في طبيعة النفس وسلوكها، يفسر مغزى الحث على التوبة والصدقة والوعظ والاستغفار عند حدوث الزلزال مثلاً، وقد جرى العمل على هذا تاريخيًّا في بعض المناطق ومن بعض الأشخاص، وقد أشرت إلى طرف من هذا في مقال الأسبوع الماضي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما، وطائفة من علماء أهل الشام الذين كانوا يأمرون عند الزلزلة بالتوبة والاستغفار ويجتمعون لذلك، وأن الإمام أحمد -على شدة تضييقه في العبادات- استحسن ذلك، كما قال ابن رجب الحنبلي.
بل إن إنشاء عبادة -كالصلاة عند وقوع الزلزال والدعاء والتضرع أيضًا- يترجم العظة التي انطوت عليها المصيبة أو الزلزال إلى سلوك تعبدي يكثف مضامين مقامي الصبر والرضا بالمصيبة، وكل هذا جواب صريح بأن العبد ليس صابرًا فقط، بل ليس غافلاً أيضًا. وبالصلاة عند الزلزال قال أحمد وإسحاق بن راهويه وجماعة، وعلق الشافعي القول به على صحة الحديث عن علي، وقد صح في ذلك حديث عن ابن عباس كما قال الحافظ ابن حجر.
عذراً التعليقات مغلقة