بالكاد يظهر وجه طفلة رضيعة بين طيات غطاء صوفي ملون، فوق طاولة خشبية صغيرة، تحاول الطفلة سرقة قسط من النوم، غير آبهة بضجيج المارين عبر محطة حافلات مدينة كهرمان مرعش جنوب تركيا. تنحني والدتها فوقها آملة بالحصول على بعض الراحة هي الأخرى، إذ أمضت العائلة سبع ليال في الحدائق العامة جراء سقوط منارة جامع مجاور، “تضرر سقف منزلنا وتعرضت الجدران لشقوق كبيرة”، تقول الأم السورية المتحدرة من مدينة حلب، مضيفة بابتسامة خجولة “لكن لحسن الحظ نجونا جميعنا من هذا الزلزال العنيف”.
بات منزل عائلة عائشة مهددا بالانهيار في أية لحظة، جراء الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا يوم الإثنين الماضي 6 شباط/فبراير.
أبنية، وشوارع بأكملها مُسحت تماما في هذه المدينة المنكوبة، مع ذلك وبعد مرور سبعة أيام على الزلزال المدمر، لا تزال فرق الإنقاذ وهيئة إدارة الكوارث التركية تعملان على إزالة ركام الأبنية المتهدمة على مدار الساعة، في حين هُجرت أبنية شبه صامدة، خوفا من انهيارها، لاسيما مع استمرار الهزات الارتدادية.
وبينما تحرص عائشة على إحاطة ابنتها بالغطاء الصوفي على نحو يمنع تسلل البرد إلى جسدها، تجلس شقيقتها فاطمة بجانبها وهي تحاول تهدئة ابنها البالغ من العمر عاما واحد. تمد فاطمة ابنها الصغير بقطعة بسكويت عله يلتهي، وتوضح قائلة “هرعنا للخروج من المنزل ليلة الزلزال، كانت الأرض تهتز بشدة والسماء ترد عليها بغيوم وأمطار غزيرة، وكأننا عالقين بين معركتين تحيطان بنا من كل الجهات”.
لا نعلم ما الذي سيحل بنا. بتنا بلا منزل ولا وطن
لم تحصل الشقيقتان، منذ أن تشردتا من منزلهما، سوى على مساعدات قليلة اقتصرت على القليل من الطعام والماء وبعض المستلزمات الأولية للأطفال. تشير عائشة بيدها إلى سترتها الخضراء المموهة قائلة “هذا كل ما أملك حاليا. ليس لدينا أي شيء آخر وليس بمقدورنا العودة إلى منزلنا”.
لجأت الأم السورية إلى تركيا منذ عام 2014، بعدما لقي زوجها مصرعه في إحدى المعارك شمال سوريا، أثناء انخراطه في صفوف الجيش السوري الحر. وبعد اعتقادها بأنها بدأت حياة جديدة، إذ استقرت في تركيا وتزوجت وانجبت طفلين، وجدت نفسها تعيش تجربة النزوح مرة أخرى. “لا نعلم ما الذي سيحل بنا. بتنا بلا منزل ولا وطن نستطيع العودة إليه في ظل استمرار حكم بشار الأسد”.
كافحت الشقيقتان الإنهاك الناجم عن تشردهما مع أطفالهما في الحدائق العامة، وعدم استطاعتهما الحصول على خيمة حتى، وقررتا في النهاية التوجه إلى بيت أختهما في مدينة قيصري، “جئنا إلى محطة الحافلات أملا بإيجاد وسيلة مواصلات مجانية تقلنا، فالحل الوحيد أمامنا هو البقاء بضعة أيام في منزل شقيقتنا لأخذ قسط من الراحة. الجميع منهك هنا ونحن نشعر بالخوف على أطفالنا من المرض”.
في ولايات جنوب تركيا يعيش أكثر من مليون ونصف لاجئ سوري مسجّل لدى الأمم المتحدة، هربوا خلال الأعوام الماضية إلى تركيا المجاورة التي تستقبل إجمالي 3,7 مليون لاجئ سوري.
الانتقال إلى مدن أكثر أمانا
في صالة انتظار الحافلات، يساعد الشاب السوري وليد أخاه على التنقل بعد أن أجلسه فوق عربة صغيرة، إذ لا يستطيع أخوه المشي، كُسرت قدمه بعد بقائه يومين تحت أنقاض بيتهم المهدّم.
بكلمات قليلة تخرج بالكاد من فمه، يقول وليد “فقدت اثنين من أخوتي جراء الزلزال”، ويضيف محاولا كبح دموعه “نأمل بإيجاد حافلة تقلنا عند أقاربنا في مدينة أنقرة. نحتاج إلى بعض الراحة”.
حجم الكارثة التي خلّفها الزلزال لا تقتصر على عدد القتلى الذي تجاوز الـ35 ألف في تركيا وسوريا فقط، وإنما أيضا على إجبار 400 ألف شخص في الجنوب التركي إلى النزوح باتجاه مناطق أخرى أكثر أمانا، بحسب الأرقام الرسمية. وأدى ذلك إلى ضغط كبير على وسائل المواصلات البرية والجوية.
السلطات التركية، ضمن خطتها للاستجابة للأزمة، قررت توفير الطيران الداخلي مجانا لجميع المتضررين من الزلزال والراغبين في السفر إلى مدن أخرى. لكن لم يستطع كثير من السوريين الاستفادة من ذلك، وباتو يبحثون عن طريقة تمكنهم من السفر إلى مدن لديهم فيها معارف أو أقرباء يستطيعون مساعدتهم.
بجانب مدخل المحطة يقف ثلاثة شباب من فريق “ملهم التطوعي”، تجمع حولهم عشرات السوريين للاستفسار عن كيفية السفر. يطلب المتطوعون في المنظمة السورية غير الحكومية من كل عائلة ملأ استمارة الكترونية لتحديد الوجهة المطلوبة وعدد الأشخاص، ويقول أحد المتطوعين، سجّلت 60 عائلة عبر هذا الرابط، اليوم.
يوضح محمد عثمان، مدير البرنامج الطبي في فريق ملهم التطوعي، خلال حديثه مع مهاجر نيوز، أن الأولوية بالنسبة إليهم حاليا هي المساعدة في إخلاء الأماكن المتضررة وتوفير حافلات تقل السوريين إلى وجهات يرغبون في الذهاب إليها، “يوم السبت نقلنا حوالي ألف شخص إلى مدن مرسين وأضنا وقيصري وإزمير. ويوم الأحد 320 شخصا آخرين إلى أنقرة”.
عدنا إلى ما دون نقطة الصفر
على بعد بضعة دقائق من محطة الحافلات، تحتمي عشرات العائلات السورية داخل مركز رياضي، حولته البلدية إلى مركز إيواء طارئ مخصص لجميع المتضررين من الزلزال، سوريين وأتراك، مؤقتا. وتغطي أرضية ملعب كرة السلة في المركز، فرشات من الإسفنج ينام عليها الناجون من الزلزال العنيف.
داخل الصالة الأساسية للمركز، تجلس سوسن المتحدرة من قرية السرمانية في ريف حماه، وبجانبها ابنتها الصغيرة المُقعدة، فيما تملأ المكان رائحة واخزة “تمكنا من الهرب من منزلنا بأمان أنا وزوجي وأطفالي الستة وأمضينا أول ليلتين ننام في السيارات والشوارع قبل أن نتمكن من الدخول إلى هذه الصالة الرياضية”.
لا يمكن لعائلة سوسن العودة إلى المنزل، حال بقية العائلات التي تضررت منازلها، ويتكرر بذلك مشهد النزوح الذي عاشته هذه الأم منذ عشرة سنوات “عدنا إلى نقطة الصفر”. وتضيف الأم التي بقيت مع أطفالها في المركز، بينما زوجها في الخارج يبحث عن خيمة تؤوي العائلة، “قالوا لنا إنه سيتم إخلاء هذه الصالة خلال أيام قليلة ولربما ساعات.. لا نعلم ما الذي سيحل بنا وجميع أقاربنا يعيشون هنا ومنازلهم إما تضررت أو تهدمت. إلى أين سنذهب إذا أخرجونا من الصالة؟ كل ما نريده في هذه اللحظة هو تأمين خيمة على الأقل”.
تلتقط الأم السورية أنفاسها قبل أن تكمل “هربنا من القصف العنيف على قريتنا في عام 2013، واضطررنا للنزوح إلى أنطاكيا حيث بقينا في مخيمات اللاجئين لأشهر طويلة ومن ثم انتقلنا إلى مخيم آخر. وبعد أن بدأ وضعنا بالتحسن أخيرا وحصل زوجي على عمل في شركة للحدادة واستأجرنا شقة في المدينة، فقدنا كل شيء من جديد”.
تحاول كبح دموعها وتنهي بالقول “لا بل عدنا إلى ما قبل نقطة الصفر. فلم يعد لدينا سكن وليست لدينا قدرة حتى على تأمين خيمة”.
تأمين مسكن يبقى الأولوية للكثير من العائلات السورية التي تشردت ولم يبق لها سوى خيارات محدودة، تنحصر بتلقي مساعدات من أقارب أو معارف أو جمعيات محلية.
Sorry Comments are closed