ألف الشيخ عبد الرحمن الكواكبي الكتاب بعد هجرته من الشام التي كان مضطراً للمخاطرة بحياته فيها حيناً وللاكتتام فيها حيناً آخر إلى مصر “الحرية”، ذلك بعهد الخديوي عباس الثاني (1892-1914) الذي شكره الشيخ في مقدمة كتابه، ونشر عدة مقالات سياسية في مجلات مصر عن الاستبداد وتأثيراته، وأهدى كتابه للشباب العربي الذي رأى طلائع التغيير فيه وقتها.
كان الباحثون وقتها – حسبما يصف المؤلف – مشغولين بالبحث عن سبب “انحطاط” الأمة العربية والإسلامية، ورأى الكواكبي أن الاستبداد السياسي هو السبب الأول لتخلّف الأمة الإسلامية وأن دفع “داء الاستبداد” يكون بالشورى الدستورية.
يهدف الكواكبي من كتابه لتعميم طبائع الاستبداد وما يفعله بالأمم وتشخيص مصارع الاستعباد وما يفعله بذويه، وأيضاً التنبيه لسبب الاستبداد الحقيقي وهو أفعال الناس أنفسهم لا الأغيار ولا الأقدار، ويطالب بأن يستدرك الناس شأنهم مع الاستبداد قبل مماتهم.
ويعترف أنه لم يقدر على حصر كل أسباب الاستبداد في مؤلّفه، وهو مؤلّف يمتاز بأسلوب الاقتضاب السهل والابتعاد عن التعقيد والتفريع، ويتمنى المؤلف على الناقدين أن يأتوا بكتابات خيراً من كتابه، أي أنه لا يتمنى العفو عن الأخطاء كمعظم المؤلفين.
يقسم الكتاب إلى مقدمة و9 فصول، ثمانية منها يشرح فيها أن “الاستبداد أصل كل فساد”, أي يفصّل آثار الاستبداد السياسي على مختلف المجالات الدينية والعلمية والأخلاقية والتربويّة، ثم ينهي كتابه بفصل كامل يستفيض شرحاً فيه عن طرائق التخلص من الاستبداد.
يستهل الكواكبي الفصل الأول بالحديث عن تطور علم السياسة وتطور مؤلفات علم السياسة بين الشرق والغرب ثم ينتقل إلى تعريف الاستبداد السياسي بالقول إنه “إدارة الشئون المشتركة بمقتضى الهوى”, ثم يعرّف الاستبداد لغة بأنه “غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة”, ثم يوضّح معنى الاستبداد مجازاً واصطلاحاً وبأسلوب المرادفات والمقابلات.
يتحدث المؤلف عن صفات الحكومات المستبدة، ويؤكّد أن الاستبداد لا يرتفع إلا بالارتباط بالمسؤولية، فحتى الحكومة العادلة إن لم تكن مسؤولة أمام المشرعين تصير مستبدة!، ثم يشير إلى أشد مراتب الحكومات المستبدة بأنّها “حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية”.
يعتمد الاستبداد على أداتين مهمتين هما جهالة الأمّة (والتي ابتعدت عن الناس بفضل التمدّن) الجنديّة الإلزاميّة المنظّمة التي يراها الكواكبي اختراعاً شيطانياً!، فالخدمة العسكريّة تفسد أخلاق الناس بتعليمهم الشراسة والطاعة العمياء والاتكال، لا بل تكلّف الدولة إنفاقاً لا يطاق في سبيل خدمة المستبد.
الاستبداد يد لله القوية الخفية التي يحرق بها عباده الخاملين الذين خالفوا ما خلقهم الله عليه، وقبلوا بالتظالم والاستعباد على العدل والحريّة، فالظالم سيف لله ينتقم به ثم ينتقم منه، ينتقم به من عبادة الذين أقرّوا بعظمة المستبدّ على حساب عظمة الله ثم ينتقم منه ويأتي بمن يهزم المستبد “ليداولها بين الناس”.
وحول علاقة المستبدّ بأتباعه يؤمن الكواكبي أن الله عادل بالمطلق، وأن فرعون “استخف قومه فأطاعوه” وأن من أطاعه هم من “القوم الفاسقين”, فلا يولّي الحاكم المستبد إلا على الأفراد المستبدين ولا الحاكم الحرّ إلّا على الأحرار “فكما تكونوا يولّى عليكم”.
“لو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفا لما أقدم على الظلم”، هذه جملة تثير إعجاب الكواكبي الذي يؤكد أنه مر عليها في سيرة عمر بن الخطّاب; الذي حمد الله لأنه وجد مِن قومه مَن يَعْدِلُه إذا مال عن الحق، ولكن رغم ذلك لا يدعو الكواكبي للخروج على الحكام بالسلاح والثورات، فهو شيخ إصلاحي يرى أن الاستبداد لا يقاوم بالشدّة إنما يقاوم باللين والتدرج.
في الفصل الثاني يتحدث الكواكبي عن روابط الاستبداد بالدين فيقول أن كل مستبد يستند على كهنة يجعلون عوام الناس بحالة التباس بين الإله المعبود بحق وبين المستبد المطاع بالقهر، ويرى الكواكبي أن تعظيم العوام للمستبد السياسي قد يزيد على التعظيم لله، لأنهم يرون عذاب الله آجل غائب، وأما انتقام الجبار فعاجل حاضر.
ولا يقتصر عمل “الكهنة” على ما سبق، بل يزيد إلى دعم أكثر الآراء تطرفاً بقصد تفريق الأمة إلى شيع متعادية يحارب بعضها بعضاً، فيفنوا بعضهم ليخلو الجو للاستبداد، ويتلقى الناس قواعد المستبد وأحكامه بإذعان بدون بحث أو جدال.
يبرأ الكواكبي مما حرّف المستبدون وفقهاء السلاطين من صحيح الدين فيدعو بكتابه مناجياً الله محذراً من “افتراء” المستبدين وأعوانهم على الدين، فالإسلام بنظر الشيخ لا يوجب الحمد للحاكم الجائر إذا عدل ولا ينصح بالصبر عليه إذا ظلم، ويرفض تسمية كل معارضة للطغاة بغياً يستوجب إباحة دماء المعارضين.
لا يخفى على القارئ أن الشيخ ماهر بل فنان في التشبيه، ففي الفصل الثالث يُفسَّر آثار الاستبداد على العلم، فيشبّه المؤلف المُستبدَّ عليهم من الناس بالأيتامِ والطاغيةَ بالوصيّ غير الأمين عليهم، ليقول أن الوصي ليس من غرضه أن يتنور الأيتام بالعلم لكيلا يعرفوا قلة نزاهته، فالشيخ يبيّن للقارئ أن انتشار نور العلم في الأمم “يكسِّر” فيها قيود الاستبداد.
ثم ينتقل للحديث عن أنواع العلوم التي ترتعد فرائص المستبد منها، فهي “علوم الحياة” كالحكمة النظرية، وحقوق الأمم، وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية… أي العلوم التي “تكبر النفوس وتوسع العقول”, وتجعل الإنسان عارفاً لحقوقه وكيف يطلبها وكيف يحفظها.
ويؤكّد الشيخ أن المستبد يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علما أو مَن يفوقه فكراً، فإذا اضطر للاستعانة بطبيب أو المهندس يحرص على اختيار الغبي المتصاغر المتملق منهم، بل قد يدفع الحقد والغيرة المستبد لمطاردة العلماء والتضييق عليهم بل ودفعهم لترك البلاد والهجرة خارجها.
الفصل الرابع يتحدث عن كيفية “إفساد” الاستبداد للمجد وتحويله للتمجُّد، فالمجد هو مقام حب واحترام للإنسان في القلوب وأضعفه الكرم وأقواه التضحية بالنفس، أما التَمَجُّد فهو أن يصير الشخص عدواً للعدل نصيراً للجور، أي متقرّباً من المستبد مهما كلف الأمر.
والمستبد لا حول له ولا قوة إلا بالمُتَمَجِّدِينَ، وهم بحسب الكواكبي نوعان جاهل عاجز يعبد المستبد من دون لله، أو خبيث خائن يرضي المستبد ويغضب لله. ورغم ذلك لا يكونون أمينين من صولة المستبد عليهم، فمزاحموهم من المتملقين مثلهم عند المستبد كثر، والناس مبغضة لهم لقدرتهم على الشكوى للمستبد منهم، والمستبد يريدهم شمّاعة يعلّق عليها أخطاءه.
وزراء المستبد مثلاً يكونون بالضرورة من المتمجّدين، لنأخذ وزير الدفاع مثلاً… فبدل أن يكون ساعياً للمجد عاملاً بأمر أمته، بل سيفاً لها على رؤوس أعداءها، يصير أداة للمستبد يواجه بها المواطنين متى أراد، ومثل هكذا وزير يخاف أن تصير أمته صاحبة قرار لعلمه أن شعبه يرفض تولية مثله من الساعين للتمجُّد لا المجد.
“المال دين الاستبداد وشرفه وحياته”, بهذه العبارة يستهلّ الكواكبي الفصل الخامس، فالمستبد يرى الاقتصاد سوقاً يتحكم فيها كما يشاء، فيأمر بالبيع وينهى عن الشراء ويغصب المال ويحابي من أراد من مال الناس، والمستبدون ويمتصون دماء حياة الرعية بغصب أموالهم.
“المستبدون لا تهمهم الأخلاق إنما يهمهم المال”… ليستدلّ على ذلك ينقل الشيخ قصة عن مؤرخ روسي تقول إن ملكة روسيا أجبرت النساء على الخلاعة ثم فرضت ضرائب لجيبها على من يريد الاقتراب منهن، فهب الشبان للعمل وكسب المال لصرفه على الدعارة، فعند المستبد لا يهم مصدر المال ولا أين يصرف بقدر أهمية وجود المال.
يشدّد الشيخ أن تحصيل الثروة الطائلة في عهد الحكومة العادلة عسير جدا، وتكاد تنحصر بطرق كالمراباة مع الأمم المنحطة، أو التجارة الكبيرة التي فيها نوع احتكار، أو الاستعمار في البلاد البعيدة، أما الحكومة المستبدة فيسهل فيها تحصيل الثروة بالسرقة من بيت المال، وبالتعدّي على الحقوق العامة، وبغصب ما في أيدي الضعفاء.
وعامّة الناس لا يفكّرون أصلاً بمصدر مال الطغاة، ذلك لأنهم يتوهمون أن داخل رؤوسهم جواسيس عليهم يراقبون أفكارهم، وبالتالي لا يَعون مستوى فقرهم مقارنة مع المستبدين، وبهذه الطريقة لا يعود الفقر محرّكاً للثورات أو الاضطرابات على المستبدين.
يشرح الفصل السادس علاقة الاستبداد والأخلاق، فالاستبداد يفسد الأخلاق أو يمحوها فيجعل الإنسان يكفر بنعم مولاه، لأنه لم يملكها حق الملك ليحمده عليها حق الحمد، بل قد يصل مرض العوام الأخلاقي إلى درجة قريبة من عدم التمييز بين الخير والشر، فيرون أن الدواء في الداء.
بل يتجاوز أثر الاستبداد على الأخلاق قدرة العقل على الاستيعاب، فيصير الإنسان حاقدا على قومه لأنهم عون للمستبد عليه، وكارهاً وطنه، لأنه غير آمن على الاستقرار فيه بل يود مغادرته، وماقتاً لعائلته وأصدقاءه، لأنه ليس مطمئنا على دوام علاقته بهم.
الاستبداد يقلب الحقائق ويقلب الفضائل الأخلاقية عند العامّة من الناس، فيصير طالب الحق فاجراً، وتارك حقه مطيعاً، والمشتكي المتظلم مفسداً، والنبيه المدقق ملحداً، وتصير الشهامة عتواً، والحمية حماقةً، والرحمة مرضاً، والنفاق سياسةً، والتحايل كياسةً، والدناءة لطفاً.
وقد يتجاوز فساد الأخلاق العامّة ليصل عقلاء الأمم، فلو وصل المؤرخين مثلاً لسمّوا الفاتحين الغالبين بالرجال العظام، ويُعْلُونَ من قدر المستبدين، وينظرون إليهم نظر الإجلال والاحترام لمجرد أنهم أكثروا في قتل الإنسان، وخرّبوا الديار والعمران.
يشدّد الفصل السابع أن التربية والاستبداد عمليتان متعاكستان، فالاستبداد يجعل الأسر غير آمنة على تربية أولادها لها، بل تصير تربيتهم أطفالهم كتربية الحيوانات للمستبدين!، ثم لماذا يتحملون مشاق التربية والعائلات إن نوّرت أولادها بالعلم جنت عليهم بتقوية إحساسهم، فيزيدهم المستبدون شقاءً، فتترك الأسر أولادها بلا اهتمام وعرضة للغباء والبله.
والتربية في ظلال الاستبداد لا تكون إلا بالتخويف من القوة القاهرة أي ليس عبر الإقناع ولا الترغيب، وليجاري القوة يتعلم التذلل والتصاغر والتلاين فلا يهمه نيل العلم بقدر تجنب غضب المعلم القوي.
في الفصل الأخير من الكتاب، يتحدث الكواكبي عن ترقّي الأمم والاستبداد كمانع لذلك، بل يضيف أن الاستبداد يحول الميل الطبيعي لأي أمة من طلب الترقي إلى طلب التسفل والانحطاط، ويستغرب اشتكاء الناس من الجهل والانحطاط رغم عدم صرفهم على التعليم نصف ما يصرفون على سفاسف الأمور كالتدخين، وبالمثل يستغرب شكوتهم من حكامهم، وعدم سعيهم في إصلاحهم.
يختم الكواكبي مؤلفه بثلاث قواعد لرفع الاستبداد السياسي عن أي أمة، فيرى بالقاعدة الأولى أن الأمم التي يغفل معظم أهلها عن آلام الاستبداد أنهم لا يستحقون الحرية، ويرى بالقاعدة الثانية وجوب مقاومة الاستبداد بطرق إصلاحية لا بطرق ثورية … بطرق سلميّة لا بطرق عسكريّة، ويشدّد بالقاعدة الثالثة على إيجاد رؤية قابلة لأن تكون بديل للاستبداد قبل البدء بمقاومة الاستبداد.
يمكن لأي قارئ أن يوجه عدّة انتقادات للكتاب، فاستخدام وزن اسم التفضيل “أفعل” يجعل القارئ محتاراً بين ما هو (أقل أو أكثر أو أشد أو أرقى أو أخوف …إلخ)، ويلاحظ أيضاً أن الكواكبي يحيل كثيراً من كلامه على مجموع الغائبين (الحكماء، المؤرخون، الكتاب، الأدباء …إلخ) وهو ما يجعل التأكد من صحة ما ورد بعدها عسيراً.
عذراً التعليقات مغلقة