في كتابه “مذكرات عن الحرب الثورية” يصف لنا مؤلفه “تشي غيڤارا”، مشاهد كثيرة ومتباينة عن الحياة اليومية للثورة الكوبية لنرى الأبطال حين يعتريهم اليأس، لكنّه يأس عابر ينتهي بانتهاء ظرفه ومعالجة أسبابه، أقتبسُ من مذكرات غيڤارا هذا المشهد: “بدأتُ أفكرُ بأفضل طريقة للموت في تلك اللحظة، شعرتُ أنّ كلّ شيءٍ قد انتهى، صرخ أحد الرجال وهو راكعٌ على ركبتيه يجب أن نستسلم”.
لقد كان يأساً عابراً، لم يمت غيڤارا يومها ولم ينته كلّ شيء، كما أنّهم لم يرجموا الرجل الذي أطلق صرخة الدعوة للاستسلام، ويؤكّدُ غيڤارا أنّهم: “تمكنوا من البقاء متكومين فوق بعضهم حتى الصباح، وقد تعمّدوا تلك الليلة بمرارة الهزيمة والدماء والرصاص، راجعوا أخطاءهم بشجاعة وموضوعية، ليصبحوا بعد سنوات، الرجال المؤسسين للجيش الثائر”.
فهل هو يأسٌ عابرٌ ذلك الذي يستوطن قلوب كثيرٍ من أبناء الثورة السورية منذ هزيمة 2019؟.
من خلال متابعة سريعة لمنصات الحاضنة الشعبية للثورة السورية -الخاصة والعامة- سنرصدُ زيادةً ملحوظةً في أعداد من يتبنون نظرية “وفاة الثورة السورية”، يؤلمني هذا المسمى ولم أطلقه مجازاً أو على سبيل الكناية.
كلُّ ما في الأمر أنّي لم أجد مسمّى آخر لنظريةٍ درج المؤمنون بها على تكرار عباراتٍ من مثل: “عمّي ما عاد في ثورة” أو “الثورة الله يرحمها” أو “ماني زعلانة غير على ناس ماتت وناس راحت أرزاقها” أو “كان في بشار واحد صاروا اليوم ستين بشار”.
لا يتسع المقام هنا لرصد كل العبارات التي تعبِّرُ عن حالة يأس، لا يمكننا وصفه إلا بالمزمن، ولا أجانبُ الصواب إن قلتُ بأنّه غدا أشبه بجائحةٍ تستشري في جسد شريحة غير قليلة من السوريين، الذين انتفضوا في وجه نظام الأسد منذ أحد عشر عاماً ونيف!.
وأنا هنا لا أطلق حكماً بحقِّ أصحاب هذه النظرية، بل أصفُ واقعاً معاشاً، وأتساءلُ عن الجدوى المرجوة من حالة النكران التي تتعامى بمقتضاها “النخبُ” المثقفةُ عن هذا اليأس المزمن شبه الجمعي؟. والذي سيبقى مزمناً، ولن يعود عابراً يلتزم بحدود معدّلاته الطبيعية، ما لم نتحلّ بشجاعةٍ ترتقي بنا لفضيلة مواجهة أخطائنا، واستدراك تبعاتها، ثم معالجة أسبابها.
وأعودُ للنُّخب وما بدر منها على هذا الصعيد، متجاوزاً قطيع الشامتين، باعتبار غالبيتهم من المسبّحين بحمد الاستبداد وأربابه، وأكتفي بمتابعة أداء النخب المحسوبة على الحاضنة الشعبية للثورة، وجديرٌ بي التنويه على أنّ هؤلاء ليسوا في الحكم سواء.
فالشريحةُ الأولى ترى وجوبَ التغاضي عن الخطأ ومرتكبه عملاً بمقولة مفادها: “أميتوا الباطل بالتجاهل والتغافل”، موقف هذه الشريحة المكابِرة رغم عدميّته، أقلُّ شرّاً من أداء شريحة ثانية، اتخذ أعضاؤها من التخوين ديدناً وديناً، فنراهم قد ألبسوا ثوب العار للمخطئ، بغض النظر عن ظرفه وحجم خطئه، منتقلين في خطوة تالية يصمون من خلالها الحاضنة الثورية كلّها بالخيانة العظمى!.
فريقٌ طوباويٌّ اعتنق المكابرة والتقديس، فكلُّ فعلٍ غير قويم، هو حتماً خارج دائرة الفعل الثوريّ المحصّن بقداسة الشهداء وطهارة الدماء، وبالتالي يرى هذا الفريق بأنّ التعتيم واجبٌ يحفظُ هيبة الثورة، مع التأكيد على أنّ الخطأ ومرتكبه دخلاء حتماً على الثورة المعصومة، يتمترسُ هؤلاء خلف حتمية انتصار الحقّ على الباطل، والدم على السيف، والمظلوم على الظالم، ولو بعد حين، و”حين” هنا تعبّرُ عن زمنٍ فضفاض بلا محددات نهائية، حتى ولو على سبيل التقريب.
وطيلة امتداد هذه الـ”حين”، يلازم أنصار هذا الفريق أعتاب الانتظار، انتظار عوامل خارجية، أرضيّة وغيبية، ستقلب الطاولة وتغيّرُ اتجاه الريح وتجعلُ الدائرة على الظالمين.
يقابلُ الطوباويين فريقٌ سوداويٌّ أدمن طقوس اللطمِ وجلدِ الذات، متخذاً من التهويل والتعميم عدستين لمنظارٍ يتصيّدُ من خلاله كلّ سلوكٍ غير قويم، وقد دأب هذا الفريق على توصيف النتائج الكارثية الراهنة، متنقّلاً خلال مرافعته بين بؤس الناس معيشياً وتدهور القطاع التعليمي وحالة البطالة وانتشار المخدرات وانعدام الأمن والحريات، لكنه يحرصُ في النهاية على التأكيد بأنّها أخطاء الآخرين الخونة وأنّه فريق الضحايا!.
ولا يخرجُ أداء الإعلام “الثوري والمعارض” عن أداء هذين الفريقين، بل نراه قد انقسم بينهما، هائماً في كلِّ وادٍ يسوقه إليه أحدهما أو كلاهما، يستضيفُ من المحللين ويذيعُ من الأخبار، من وما ينسجم مع إحدى الطائفتين.
بين التقديس والشيطنة، التعتيم والتعميم، ضاعت الأصوات المطالبةُ بمراجعة الأخطاء تحت سقف الموضوعية والإنصاف والنزاهة، وتشخيص الأمراض بعيداً عن تأثير التصورات المسبقة والأحكام المطلقة.
مراجعةٌ واجبة وطبيعية لمسيرة ثورة شعبية، ويجبُ أن نؤكد هنا على شعبيتها، فأبناؤها بشر طبيعيون، قد يرتقي أحدهم لفعل البطولة في لحظة ما، وهو ذاته من قد يضعف حين تحتم عليه الظروف الموضوعية أو الذاتية أن يضعف.
أذكرُ الآن مشهد انتصار ثوار اسكتلندا على الجيش البريطاني، في نهاية معركة “بانوك بورن”، يومها هتف الاسكتلنديون وقائدهم “روبرت بروس” للحرية، مستحضرين ذكرى “وليام والاس” بطلهم الأسطوري الذي أطلق شرارة الثورة ضد الإنكليز.
يجهلُ كثير من القرّاء أنَّ القائد المنتصر “بروس” كان من ضمن الأشراف الاسكتلنديين الذين خانوا “وليام والاس” في معركة “ڤالكيرك” وأنّ والد بروس هو من دبّر مكيدة الإيقاع بوالاس، ثمّ سلّمه بعد ذلك للأعداء الإنكليز، الذين قاموا بإعدامه حين رفض الاعتذار وطلب الرحمة من الملك، لتكون آخر كلمة قالها “حرية”.
ولئن جهل بعض القراء هذه التفاصيل، فقد عرفها حتماً الثوار الاسكتلنديون في ذلك الزمان، لكنّهم تعاملوا مع بعضهم كأناسٍ عاديين، لا كملائكة ولا كشياطين.
فمتى نتعاملُ بموضوعية مع آفاتنا المجتمعية، الجمعية منها والفردية، بعيداً عن حدّي الشيطنة المطلقة والتقديس الأعمى. مع التأكيد دوماً على أنّ الثورة من حيث أنّها قيم حق حتماً لا تموت.
Sorry Comments are closed