يوجسُ الكثير من السوريين خيفةً كلّما توضّحت معالم التقارب التركي الأسدي، ليقينهم بأنّ إحياء أي قناة تواصل مع سفّاح سوريا لن تكون إلّا على حساب قضيتهم، وبالتالي فإنّ أي امتياز سيحصل عليه العائدون إلى الأسد سواء أكانت تركيا أو سواها، فلن يكون سوى امتيازٍ في تعزيز مأساتهم واستمرارها، وربّما كان أكثر المتوجسين من هذا التقارب هم اللاجئون السوريون في تركيا، وهم الأكثر عدداً قياساً إلى اللاجئين السوريين في دول الجوار الأخرى ( 4 ملايين لاجئ)، وكذلك السوريون الذين يقيمون في مدن ومناطق الشمال السوري من إدلب وحتى عفرين، بما فيهم المقيمون في المخيمات الداخلية، ويتجاوز عدد هؤلاء أكثر من مليونين ونصف المليون من المواطنين.
لعلّ معظم هؤلاء اللاجئين الذين توافدوا إلى تلك المناطق من غرب سوريا وشرقها وشمالها وجنوبها، قد وطئوا تلك الديار إمّا تحاشياً لبراميل الأسد ومخابراته وشبيحته، أو فراراً من بطش داعش ومشتقاتها الظلامية والطائفية، وربّما اعتقدوا أنّ المظلة التركية سوف تمنحهم بعض الأمان لأرواحهم وعائلاتهم، ولكنّ قليلاً منهم من مال إلى الظن بأنّ الدولة التركية ستكون الوكيل المطلق الذي يحوز كافة الصلاحيات بالتحكّم بمصير قضيتهم والتصرّف في مفاصل مصير السوريين وفقاً لما يخدم المصالح التركية.
علماً أنّ واجب العرفان يقتضي التنويه بالدور الإنساني الكبير الذي جسّدته الدولة التركية حيال اللاجئين السوريين، إذ إنّها ليست الدولة الأكثر استقبالاً للسوريين فحسب، بل إنّ التسهيلات التي قدمتها حكومة أنقرة أمام الوافدين السوريين إلى أراضيها لم تقدمها أية دولة أخرى. ولكن الوازع الإنساني هو كلٌّ متكامل لا يمكن تجزئته أو إخضاعه للحاجة والمصلحة، وإلّا أصبح ضرباً من الابتزاز والاستثمار، إذ لا يمكن أن يُقايَض الإحسانُ بتخلّي الشعوب عن حقها في الحرية والكرامة.
وعلى أية حال، مهما بلغ استياء السوريين المناهضين للأسد وسخطهم على خطوات التطبيع التركية مع نظام الأسد، فإنّ هذا السخط، وكذلك الرفض المتراكم للسياسة التركية حيال القضية السورية قد بدت ملامحه بالتبلور منذ مطلع العام 2017، وعلى أعقاب سقوط حلب الشرقية بيد النظام وحلفائه، ومن ثم مع بدء مسار أستانا الذي أظهر خلال سيرورته كاملةً أن قضية السوريين لم تعد سوى ورقة تتقاذفها الدول الثلاث – روسيا وتركيا وإيران – وكل طرف يحاول تسطير ما يريده من الطرف الآخر عليها، إلى أن تشابكت فيها الخطوط والمصالح وغابت عنها ملامحها السورية غياباً كاملاً.
ويمكن التأكيد على أنّ معالم الخراب بدأت تتوالى موازاةً مع الترجمة الفعلية للقاءات أستانا، إذ إنّ سيناريو اجتياح حلب قد أخذ يتكرر في الغوطة الشرقية والقلمون ودرعا، من خلال الخديعة التي أُطلق عليها (مناطق خفض التصعيد)، ثم توالى المشهد ذاته في شباط من العام 2020، حين اجتاح النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون معرة النعمان وسراقب وخان شيخون وكفرنبل وجزءاً من الريف الغربي لحلب، ما أفضى إلى نزوح أكثر من مئتي ألف مواطن تجاه المخيمات أو في العراء.
كل ذلك كان يجري تحت مظلة أستانا وبتوافق تام بين الدول الراعية لهذا المسار، ربّما وحدهم السوريون المناهضون للأسد الذين كانوا يقاومون لكن بحرقة قلوبهم ودخان حسراتهم فحسب، إذ ثمة من كان كابحاً لتطلعاتهم وقاهراً لأمانيهم على الدوام، وأعني بذلك الكيانات الرسمية للمعارضة (الائتلاف – هيئة التفاوض – ومن ثم اللجنة الدستورية)، تلك هي الكيانات التي كانت أكثر تحدّياً لإرادة أعداء الأسد من السوريين.
حين قدّمت نفسها كقيادة لثورة السوريين وممثلة لهم في المحافل الدولية، ولكنها كانت الأدوات الأكثر طواعية وانصياعاً بيد الآخر، بل أبدت حماساً عارماً وشهوةً منقطعة النظير للمزيد من الارتهان الذي أفضى بها إلى أن تكون صاحبة دور وظيفي حرصت أشدّ الحرص على الإخلاص له والعمل وفق مقتضياته، وها هي اليوم تقف صامتةً، بل مُذعنةً أمام ما يجري دون أن تبدي أي اعتراض على ما يجري بحسب تعبير وزير الخارجية التركي.
لعل المفارقة الأشدّ إيلاماً والتي لا يدركها الأتراك أو أنّهم لا يدركون مدلولها الجوهري، هي أنّ السوريين الثائرين بوجه الطغمة الأسدية لا يمكن اختزالهم بالكيانات الوظيفية كالائتلاف ومشتقاته، إذ إن تلك الكيانات المصطنعة التي فُرضت على السوريين وباتت عبئاً على القضية السورية هي في الأصل لم تكن حاملاً حقيقياً لمشروع الثورة والتغيير بقدر ما كانت قدرتها محدودة على حمل الأدوار الوظيفية المنوطة بها فحسب.
وبالتالي لم تنطلق من مقدمات تتأسس على مواجهة جذرية مع الطغمة الحاكمة في دمشق بقدر ما هي متمسّكة بدور لها في إدارة الأزمة لا أكثر، فضلاً عن أنّ هذا الدور لا يتعدّى الامتثال لما تمليه الجهات الخارجية، في حين أنّ المواجهة بين الثوار السوريين وحاكم دمشق هي مواجهة وجودية وليست صراعاً سياسياً يمكن حلّه بتنازلات متبادلة من الطرفين، ومن هنا تبدو الفروق كبيرةً بين الوهم الذي يختزله القرار الدولي (2254) الذي بات غطاءً فضفاضاً مورست تحته كل أشكال الإجرام بحق السوريين، وبين جوهر الصراع الكامن في كفاح شعب ضدّ طغمة إبادية لا تملك سوى القتل والإبادة كوسيلة ضامنة لبقائها واستمرارها في السلطة.
ولئن كانت تركيا – شأنها في ذلك كشأن بقية الدول – لا ترى غضاضة من التعامل مع مجرم أوغل في قتل شعبه حتى درجة الإبادة، إذا اقتضت مصالحها ذلك، سواء أكانت تلك المصالح ذات صلة باستحقاقات انتخابية داخلية أو ذات صلة بجوانب سياسية أو اقتصادية أو أمنية، فلا ينبغي لتلك المصالح أن تصادر حق السوريين كشعب يناضل دفاعاً عن وجوده وحريته واسترداد حقوقه المغتصبة منذ نصف قرن، كما لا ينبغي أن يكون ثمن تلك المصالح دماء ملايين الشهداء وتشريد ما يقارب نصف الشعب السوري فضلاً عن معاناة مريرة على مدى أكثر من أحد عشر عاماً.
ومن هنا تبرز فداحة ما تم بحثه وتداوله في اللقاء الثلاثي يوم الأربعاء الماضي في الثامن والعشرين من الشهر الجاري، بين وزراء دفاع كل من روسيا وتركيا ونظام الأسد، فيما يخص فتح المعابر التجارية بين أنقرة ودمشق من جهة، وموضوع إعادة اللاجئين السوريين إلى حظيرة الأسد من جهة أخرى، إذ مهما كانت الذرائع الكامنة وراء ذلك فإنّها لا توازي فداحة نتائجها الفعلية على مستوى الواقع، بل ربّما بدا الكلام على فوائد اقتصادية ستجنيها تركيا من وراء فتح المعابر مثيراً للريبة. إذ ماذا تتوقع أنقرة أن تجنيه من نظام متهالك لم يعد قادراً على توفير رغيف الخبز حتى لمواليه وشبيحته؟، وهل تتوقع أن انفتاحها على نظام الكبتاغون سوف يثري الاقتصاد التركي؟ أمّا الحديث عن مطالبة تركية من سلطات دمشق بخصوص ضمانات أمنية لعودة اللاجئين فإنّها بقدر إيلامها تبدو مثيرة للسخرية.
فما الذي يعيد ثقة من غادروا ديارهم فراراً من الموت، بقاتل أبنائهم ومغتصب نسائهم ومُعتقِلٍ لمئات الآلاف في سجونه ومحارقه البشرية؟، ولعلّه من الطريف أن يدرك الوكلاء السوريون أن تماهيهم في أدوارهم الوظيفية التي أُنيطت بهم لن يمنحهم عطف الجلّاد ومكافأته لهم بالشكر والأمان، ذلك أن الإرث الإجرامي لنظام الأسد يؤكّد أنّ مصافحة أبنائه العاقين هي المقدمة لافتراسهم.
عذراً التعليقات مغلقة