قبل أيام، توفيت “الحاجة” منيرة قبيسي مؤسسة ما عُرف -إعلاميا وشعبيا- باسم “القُبَيسيات”، وهي جماعة دعوية نسائية انتشرت في العديد من الدول في العقود الأخيرة. وقد اتفقت شخصيات وجماعات دينية عدة على نعي قبيسي المصحوب بنوع من الثناء عليها، سواء من مؤيدي نظام الأسد أم من المعارضة، الأمر الذي أثار موجة انتقادات حادة داخل صفوف المعارضة السورية وساخرة أحيانا.
هل يُقَدم الدعوي على الثوري لدى المشايخ والدعاة المحسوبين على الثورة؟ وهل يمكن للمعارض أن يُنحي الانفعالات الإنسانية في حضرة الموت؟ وهل هذا مطلوبٌ أصلا؟
من بين من نعاها من طرف النظام، مجمع الشيخ أحمد كفتارو ومجمع الفتح الإسلامي وهما يمثلان أبرز مؤيدي الأسد. أما من طرف المعارضة فقد نعاها الشيخ أسامة الرفاعي المفتي ورئيس المجلس الإسلامي السوري، والشيخ معاذ الخطيب رئيس الائتلاف السوري السابق، وغيرهما. وقد وصفتها نعوة “مجمع الشيخ أحمد كفتارو” بـ”الداعية الكبيرة التي ملأت أنوار دعوتها الآفاق”، ووصفتها نعوة “مجمع الفتح الإسلامي” بـ”الأستاذة القديرة والمربية الفاضلة الداعية الجليلة” التي “أسست واحدة من أهم النهضات الدعوية النسائية في العصر الحديث”، وخصت بالذكر أخاها بهجت القبيسي عضو الهيئة التدريسية في المجمع. أما الشيخ أسامة الرفاعي وغيره من أفراد المعارضة فقد وصفوها بـ”المربية الفاضلة”.
هذا الاتفاق بين جمعيات وجماعات دينية مختلفة المشارب والمواقف السياسية على نعي شخصية دعوية مؤثرة لنحو 6 أو 7 عقود، كان ليكون أمرا طبيعيا لولا أن “القبيسيات” تحولن -بحسب الظاهر- إلى تأييد نظام الأسد بدءا من سنة 2012، وهو ما سبب كل هذا الجدل حول نعي معارضين لها. ومن المفارقة أنه جدلٌ يتزامن مع لقاء وزير الدفاع ورئيس الاستخبارات التركيين مع نظيريهما من النظام السوري وبحضور وزير الدفاع الروسي.
يعيدنا هذا الجدل الدائر إلى أسئلة مركزية من قبيل: هل يُقَدم الدعوي على الثوري لدى المشايخ والدعاة المحسوبين على الثورة؟ وهل يمكن للمعارض أن يُنحي الانفعالات الإنسانية في حضرة الموت؟ وهل هذا مطلوبٌ أصلا؟ والانفعالات هنا قد تكون منفعلة بالثورة وناقمة بحق لى إجرام النظام وبشاعة موقف مؤيديه وخصوصا من التيار الديني، وقد تكون منفعلة بشبكة علاقات دعوية وعائلية مرتبطة بالفقيدة. أي أننا هنا في حضرة دوافع إنسانية وأخلاقية أيضا، خصوصا أن الجميع متفق على رفض تأييد النظام ولكنهم يختلفون حول ما إذا كانت قبيسي نفسها مؤيدة أم لا. وهل يتحول الموقف السياسي أو الديني من الثورة إلى معيار للترحم وعدمه؟ وهل يشمل هذا حتى المعتزلين والصامتين؟
تتجاوز هذه الأسئلة التفسيرات الجزئية (بل والمجتزأة أيضا) للمشهد، كتفسير بعضهم هذا الاتفاق على نعيها بنزعة مناطقية (عصبية شامية)، وتمحور بعضٍ آخر حول موقف الحاجة منيرة نفسها من الثورة ونظام الأسد ما بين وصفها بأنها ذراعٌ للنظام أو تنزيهها عن أن تكون مؤيدة لإجرامه، أو القول إنها كانت غائبة أو مغيبة عن المشهد تماما، نظرا لعزلتها ومرضها وتقدمها في السن (كانت في مطلع الثمانينيات مع بداية الثورة).
هكذا يبدو الجدل صفريا بين طرفين حديين، ولا يحتمل المواقف الوسط أو التركيبية. ولا يمكن استبعاد أن ثمة موقفا أيديولوجيا لديه مشكلة مع التدين عموما أو هذا اللون الخاص من التدين الذي نشرته جماعة قبيسي بين النساء خلال عقود، وهو الموقف نفسه الذي تبناه نظام بشار الأسد منذ توليه السلطة وحتى 2006 على الأقل، وقد انعكس هذا الموقف في الصورة السلبية التي رسمها النظام “للقبيسيات” في الدراما السورية كما سيتضح لاحقا.
بعض من يتحدثون عن القبيسيات في وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها إنما علقت في أذهانهم تلك الصورة التي رسمها النظام قبل أن ينجح في تطويع الجماعة أو تطويع من طاوعه منها (سأناقش هذه النقطة لاحقا).
أما الموقف الإيجابي الظاهر من قبيسي والمتفق عليه بين جماعات وشخصيات دينية، صوفية وغير صوفية، موالية ومعارضة، بل وإخوانية أيضا، فيظهر مجددا إشكالية تصنيف “القبيسيات” التي طالما شغلت الكاتبين عنها لدرجة أن ثمة فتوى صدرت عن اللجنة الدائمة في السعودية في تسعينيات القرن الماضي بالتحذير من الانتماء إليها، فهل هي جماعة صوفية طرقية أم صوفية فقط؟ هل هي جماعة لصيقة بجماعة المفتي السابق أحمد كفتارو أو د. محمد سعيد رمضان البوطي أو حتى جماعة زيد التي يرأسها حاليا الرفاعي؟
من المؤكد أن قبيسي تتلمذت على الشيخ كفتارو واستنسخت أيضا نظام جماعته في الهرمية، بل وطريقته الصوفية النقشبندية التي كانت -بحسب مقربين من قبيسي- تمنحها أيضا، رغم نفي بعضهم لذلك، سواء ممن كتبوا عنها أم من الشيخ أسامة الرفاعي نفسه. ولكن قبيسي كانت في الوقت نفسه متجاوزة لتحزب الجماعات السائدة ومنفتحة عليها معا، فقد نجحت في عقد صلات طيبة مع الشخصيات والجماعات الدينية العاملة في الميدان على اختلافها، ولذلك كان للشيوخ البوطي ومحمد هشام البرهاني والرفاعي وغيرهم موقف إيجابي جدا منها، وقد أكد صلاح الدين كفتارو (نجل الشيخ أحمد كفتارو) أن قبيسي بقيت على صلة بوالده، رغم تركها لجماعته، وكانت ترسل حافظات القرآن من جماعتها ليأخذن الإجازة من الشيخ أبي الحسن الكردي -رحمه الله- المحسوب على جماعة زيد.
جماعة نسائية محافظة قامت على التكتم والتحرك في الفضاء المنزلي لعقود قبل أن يتمكن النظام من إخراجها إلى الفضاء العام بفضل وزير أوقافه
هذا الانفتاح والصلات المعقدة مع الوسط الديني بل والتجاري والاجتماعي العائلي من شأنه أن يعقد فهم موقف الجماعة السياسي بعد الثورة.
لا يمكن هنا إغفال أهمية أن انحياز المشايخ والدعاة المحسوبين على الثورة إلى نعي قبيسي، هو عودة إلى منطلقاتهم المركزية، وهي: الدعوة الدينية، ولا يمكن الظن بأنهم سيرفعون الانحيازات السياسية فوق ما عداها، لأسباب لا يمكن التفصيل فيها هنا. أضف إلى ذلك أن ثمة تشابها بين فكر القبيسيات وفكر تلك الجماعات الدينية، سواء المؤيدة أم المعارضة على السواء، فجميعها ترعرعت في بيئة نظام الأسدين الأب والابن، وهي نتاج الوسط الاجتماعي والديني الصوفي والمحافظ، وجميعها يؤمن بالهرمية والطاعة والسلطوية (الطاعة للسلطة والطاعة للشيخ)، وغالبها يتبع النمط التنظيمي، وتذوب لديه المسافة الفاصلة بين الفردي والجماعي، بل إنه يَضيق لديهم جدا هامش الحرية الفردية، إذا ما انضوى الفرد ضمن جماعتهم، ليمارس الشيخ سلطته الدينية والرمزية حيث تنعدم الآراء المخالفة والخصوصيات الفردية لصالح الشيخ أو الجماعة، سواءٌ كانت إخوانية أم صوفية طرقية أو صوفية بلا طرق.
من المؤكد أن “القبيسيات” ظاهرة مركبة على المستويين التاريخي والتنظيمي، ويرجع تعقيدها -في رأيي- إلى 3 أمور رئيسة هي:
الأول: أنها جماعة نسائية محافظة قامت على التكتم والتحرك في الفضاء المنزلي لعقود قبل أن يتمكن النظام من إخراجها إلى الفضاء العام بفضل وزير أوقافه. والعمل النسائي، خاصة في بيئة سورية، محفوف بالكثير من القيود، وهو الأمر الذي أقض مضجع نظام بشار الأسد الذي عمل دائبا على إخراجها إلى “فضاء النظام” ليتم التحكم بها والسيطرة عليها، وقد توهم بعضهم أن هذا “الإخراج” كان مكسبا، له فيه فضيلة، في حين أن هذا الإخراج خدم النظام، فالمسجد وعموم الفضاء العام في سوريا هو المجال الذي يتفوق فيه النظام لما فيه من القدرة الواسعة على المراقبة والضبط وآليات التحكم، تماما كما جر النظام المظاهرات السلمية إلى استخدام السلاح والمقاومة العنيفة، لأنه هو المتفوق فيها وليتمكن من إنهائها أو السيطرة عليها.
الفارق أنه في الوسيلة الأولى (الإخراج) دمج الجماعة في جهاز الدولة الديني، وفي الثانية (المظاهرات) صور المتظاهرين على أنهم خارجون على الدولة، أي استخدم آليتي الاحتواء والإقصاء وسحب الشرعية وهما آليتان مركزيتان من آليات الضبط والتحكم التي للدولة.
الثاني: احتجاب رأس الجماعة -أعني منيرة قبيسي- التي لا يكاد يعرفها أحد إلا في نطاق ضيق جدا لا يشمل حتى عموم المنتميات إلى الجماعة. وقد أضفى هذا هالة من الغموض والتقديس، وساهم في تشكيل هوية خاصة تحكم أخلاقيات التعامل داخل الجماعة، وهي أشبه بأخلاقيات التعامل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الذين يرتفعون -شعبيا- فوق الخصائص البشرية، ويُحظر تجسيدهم، ومن ثم كان مجرد اللقاء بقبيسي غاية يسعى إليها المريد، وإذا ما حُرم اللقاء فكأنما حُرمه بسبب تقصيره وذنوبه.
الثالث: تمددها وانتشارها في دول عدة، وهذا رسم لها صورة عابرة للدولة، أو أنها جماعات في جماعة (يشبه جماعة الإخوان المسلمين)، ومن ثم كان من العسير إصدار تعميمات حول هذه التشكيلات المختلفة المنطبعة أو المتأثرة بسياقات كل دولة، وإن جمعتها الهوية الواحدة. فمن عادة التنظيمات الممتدة أن تحمل في ثناياها أو أن يُحسب عليها الكثيرون ممن ليسوا بالضرورة منها أو يمثلونها، نظرا للسعة والحركية التي تتمتع بها هذه الجماعات، وللتلونات التي يفرضها السياق الخاص بحسب الدولة والأعراف الاجتماعية السائدة فيها، بل إن مما سهل هذا أيضا اتباع القبيسيات لزي محدد يَسهل تقليده واتباعه لكل راغب، حتى لو لم يكن من الجماعة نفسها. فاللباس بمجرده لا يقدم دليلا على الانتماء أو التمثيل، وهو خلل وقع فيه بعض من أطلقوا الأحكام والتعميمات حول القبيسيات اعتمادا على صورة.
هذه العوامل الثلاثة تجعل من الجزم بسردية واحدة عن القبيسيات أو عن منيرة قبيسي بشكل خاص، أمرا محل إشكال، لأن تلك العوامل نفسها تفتح الباب على تأويلات مختلفة بحسب المعلومات المتاحة، وبحسب موقع المتحدث أيضا. بل إنه حتى من انتمى إلى الجماعة وانتظم ضمن صفوفها لا يملك الحديث الحصري عنها، لأن ذلك يتوقف على قربه وبعده من صنع القرار فيها ودرجة اطلاعه على خفايا جماعة هرمية شديدة التكتم، ويتوقف أيضا على “تمثيله” فيها، إذ غالبا ما ينطوي كلام المنتسبين (سواء كانوا حاليين أم سابقين) على مزيج من المعلومات والانفعالات الوجدانية والتأويلات أيضا.
التمييز بين هذه الأبعاد الثلاثة -في وسط نسائي غامض وأسطوري- شديد الأهمية، كما أنه لا بد من تعدد المصادر الداخلية عن الجماعة، ثم الوقوف على تقاطع هذه المصادر وتضاربها أيضا، وإبراز المتفق والمختلف فيه حتى يتسنى للباحث التعاطي النقدي مع المعلومات التي بين يديه. وهذا لم يتوفر -فيما قرأته عن الجماعة من مقالات ودراسات- بل إن أحدهم قال إنه بنى كلامه عن الجماعة على مقابلات عديدة لأعضاء فيها، ثم قدم لنا سرديته هو لما سمعه من الجماعة من دون أي إحالات أو اقتباسات، ودون بيان لما إذا كان ثمة اختلافات بين كلام الذين قابلهم، ودون توفر نقد لمصادره أيضا لجهة موقعهم في الجماعة، والباقين والسابقين، ومن تركها؟ لماذا تركها؟
هل اختلفت رواية التاركات عن الباقيات؟ وما درجة قرب هذه المصادر من صنع القرار، مباشرة أم غير مباشرة؟ وهل ثمة اختلاف في المعلومات المتاحة بين الصف الأول والصفوف اللاحقة؟ وكم منهن رأى منيرة القبيسي نفسها؟ وهل كلام المصادر تأسس على تأويل أفعال وممارسات أم على أقوال ونصوص صريحة من موقع القيادة؟ كل هذا يغيب تماما عما اطلعت عليه وهو ما يجعل تلك الكتابات كتابات غير بحثية.
أما بخصوص علاقة القبيسيات بنظام بشار الأسد، فقد شكلت صورة اجتماع وفد نسائي ببشار الأسد ووزير الأوقاف سنة 2012 صدمة كبيرة، إذ ظهر في الصورة حشد من النساء اللواتي قُدمن – إعلاميا – على أنهن قبيسيات، رغم أن بعض من ظهرن في الصورة كن قبيسيات، وبعضهن ارتدين الزي القبيسي فقط ولسن منهن بحسب مصدر حضر اللقاء نفسه، وبعضهن يظهر من ملابسهن أنهن لسن منهن أصلا.
جاء لقاء 2012 تتويجا لسعي النظام الحثيث إلى ضبط هذه الجماعة والتحكم فيها منذ تسلم بشار الأسد للسلطة سنة 2000. ففيما بين 2002 و2010 عمل النظام على الضغط على الجماعة عبر 4 مسارات متوازية:
- المسار الأول: رسم صورة سلبية للقبيسيات من خلال الدراما السورية، فقد ظهرن في مسلسلات “بقعة ضوء”، و”عصي الدمع”، و”المارقون”، و”ما ملكت أيمانكم” بشكل سلبي، تارة بوصفها جماعة تستهدف الطبقة الثرية في المجتمع لتحقيق مكاسب اقتصادية، وأخرى على أنها جماعة متشددة دينيا وصاحبة تصورات انعزالية عن المجتمع، وثالثة توضح طريقتهن في الإقناع واستدراج المريدات، ورابعة على أن الجماعة تشكل حاضنة للتطرف ويسود فيها النفاق الديني والاجتماعي.
- المسار الثاني: الضغط على الجماعة من خلال مشكلة تتعلق بالأوقاف بين الجماعة ومدير الأوقاف في حينها د. عبد الله دك الباب، الذي كان يعمل -فيما يبدو- بالتنسيق مع وزير الأوقاف على إخراج القبيسيات من المنازل إلى المساجد.
- المسار الثالث: الضغط على رأس الجماعة نفسها، فقد تم -بحسب مصدر مطلع- استدعاء منيرة قبيسي إلى فرع الأمن قبل الثورة، ولكن اللقاء تم خارج فرع الأمن، بفضل بعض التدخلات من جهة نافذة قريبة منها، إذ إن انضواء زوجات شخصيات نافذة اقتصاديا وسياسيا ودينيا ضمن صفوفها ساعدها أيضا.
- المسار الرابع: توجيه رسائل مباشرة وقاسية للجماعة، من بينها اغتيال إحدى الآنسات في الجماعة الذي وقع في 2013، وسجن بعض أفرادها وقد حصلت بعض الوساطات لإخراجهن، وقد اتبع النظام هذا الأسلوب نفسه في حادثة الاعتداء المباشر على الشيخ أسامة الرفاعي الذي دفعه وأخاه الشيخ سارية -على إثره- إلى مغادرة دمشق، وكان -فيما بلغني- قد أرسل لهما رسالة مباشرة بأنه غير قادر على حمايتهما.
شكل لقاء 2012 تتويجا لتلك الجهود الحثيثة للتحكم بالجماعة في المرحلة الأولى، مضافا إليه استثمار الجماعة فيما سماه “فقه الأزمة” في المرحلة الثانية، وهو المشروع الذي تبنته وزارة الأوقاف وجرى الحديث عنه أثناء هذا اللقاء بعموم الداعيات والمدرسات، ومن بينهن بعض القبيسيات. وكانت الجماعة -شأن غيرها- قد لزمت الصمت في بدايات الثورة، خصوصا أن إحدى القواعد الحاكمة لها اعتزال العمل السياسي أو النشاط العام خارج مساحة التدين والتعليم الديني، ولكن الجماعة -كسائر الجماعات الدينية في سوريا ومصر أيضا- شهدت مواقف مؤيدة للثورة لم تكن تعبر رسميا عنها.
وقد تم ترتيب لقاء 2012 من قبل وزارة الأوقاف بالتنسيق مع أجهزة الأمن، فقد جمع هذا اللقاء مجموعة من المدرسين والمدرسات ومديرات المدارس الشرعية التابعة لوزارة الأوقاف، ومن بينهن قبيسيات، وبين يدي تقرير مفصل يرجع إلى سنة 2012 عن ذلك اللقاء وتفاصيل ما جرى فيه، فقد استُدرج الجميع إلى اللقاء في جامع العثمان، بحجة عقد لقاء إلزامي مع وزير الأوقاف محمد عبد الستار السيد لمناقشة مسائل تتعلق بالمدارس الشرعية.
بعد أن حضر حشد المدعوات، اختير نحو 80 اسما من مديرات المدارس الشرعية وأمينات السر، بالإضافة إلى بعض موظفات وزارة الأوقاف. ثم نُقلن إلى مبنى وزارة الأوقاف الملاصق لجامع العثمان حيث كانت عناصر الأمن تملأ المكان، وبعد أن تم ضبط أسماء الحضور والتأكد من هوياتهن، أُخبرن بأنهن سيجتمعن بالرئيس، ثم نُقلن إلى قصر الضيافة في حي المالكي بدمشق بعد أن جُردن من هواتفهن وتم تفتيشهن.
تحدث الأسد في اللقاء عن أن الأزمة “أزمة أخلاقية”، وأن مسؤولية الحاضرات المساهمة في توعية أهلهن وتربية أبنائهن، وحين طلبت منه مديرة إحدى المدارس محاسبة المسؤولين قال: لسنا في وارد المحاسبة الآن، وإن الحل الأمني لا رجعة عنه. لم يؤذن لجميع من طلب الحديث بالتدخل، ويبدو أنه كان مقصورا على أسماء بعينها، بعضهن موظفات في وزارة الأوقاف ممن اقترحن أفكارا سلطوية لحل الأزمة، كتأكيد أن من قتل أو مات فهو قضاء وقدر علينا الإيمان به، وكطلب بعضهن زيادة عدد القناصين في المليحة.
مهد اجتماع 2012 لاجتماعات مماثلة فيما بعد، منها اجتماع سنة 2014 بفئة من الداعيات من مختلف الأطراف بمن فيهن قبيسيات، وذلك على غرار اجتماعات الأسد السابقة بالمشايخ في الفترة نفسها ضمن سياسة واحدة تستوعب الرجال والنساء من مختلف الجماعات، لضبط الشأن الديني والتحكم فيه عبر وزارة الأوقاف، خصوصا أن المسجد شكل وسيلة مهمة في الثورة في مرحلتها السلمية.
أعقب اجتماع 2014 تعيين سلمى عياش إحدى قيادات الصف الأول في جماعة القبيسيات وقريبة وزير الأوقاف في منصب معاون وزير الأوقاف، وقد شكل هذا التعيين رسالة صريحة ومباشرة عن العلاقة بين النظام والقبيسيات، فقد قرئت هذه الخطوة على أنها انحياز صريح وعلني من قبل الجماعة لطرف النظام، وأنه مكافأة من النظام للجماعة وانتقال من مرحلة الهجوم والتضييق السابق إلى مرحلة التأييد والتحالف، أسوة بباقي الجماعات التي تم تدجينها وسادت المشهد بعد الثورة.
لكن ثمة من رأى -كالشيخ أسامة الرفاعي- أن عياش لا تمثل القبيسيات ولا الحاجة منيرة، وأنها تمثل انشقاقا حصل داخل الجماعة (ومعها نحو الألف من القبيسيات وهو رقم يسير بالنظر إلى أعضاء الجماعة)، وأن وزير الأوقاف قد تمكن من اختراق الجماعة من خلال عياش، بحكم صلته العائلية بها، فهي أخت زوجته.
لا يوجد معلومات مباشرة عن موقف منيرة قبيسي من هذه التطورات، ولكن إن قلنا: إن الجماعة تتمتع بالمركزية الشديدة فلا يوجد ما يُعفي الحاجة من مسؤولية مثل هذا التحول السياسي، وإن قلنا: إنها فقدت سلطتها على الجماعة بحكم تقدمها في السن ومرضها، وكانت تمارس دورا روحيا فقط خلال حقبة الثورة فلا شك أن الأمر سيختلف، ولذلك فإن مسألة “تمثيلية” الجماعة مسألة شديدة الأهمية هنا، وهي مسألة فيها غموض.
ومع تحول عياش إلى جزء من بنية النظام من خلال شغلها لمنصب معاون وزير الأوقاف، تكررت النشاطات والاجتماعات، وكان آخرها حفل المولد النبوي سنة 2022 حيث ظهر بشار الأسد في صورة بصحبة عدد من النساء من بينهن عياش وأخريات، الأمر الذي استفز المعارضين وأثار نقمتهم على عموم القبيسيات، رغم أن الصورة توضح أنه ليس جميع من في الصورة من القبيسيات، وقد حرص بشار الأسد على وصفهن بـ”معلمات القرآن”، وكانت عياش نفسها قد تحدثت في كلمتها في لقاء 2014 باسم “الدعوة النسائية”.
كما تحدث بيان وزارة الأوقاف سنة 2018 عن أنه “لا وجود لتنظيم بهذا الاسم (أي القبيسيات)، كما أن هذه التسمية التي كانت تعود لفترة معينة لم تعد موجودة الآن، وإنما توجد حاليا معلمات القرآن الكريم مهمتهن تحفيظ القرآن وتفسيره”.
وهذا قد يؤكد فكرة الانشقاق والتحول الذي طرأ على الجماعة، وأن النظام أنهى الجماعة (رسميا وشعبيا) حين نجح في إخراجها من العمل المنزلي إلى المسجد والانضواء ضمن وزارة الأوقاف كباقي الجماعات الدينية المدجنة سياسيا ودينيا عبر آلية الضبط السلطوي والتحكم، وعبر تعيين عياش وتذويب الجماعة “رسميا” ضمن “الدعوة النسائية” و”معلمات القرآن”، وهو ما سعى له منذ عقدين، أما عن وجود الجماعة الفعلي داخل المنازل خلال هذه الحقبة فهذا أمر متروك للعارفين ببواطن الأمور. رحم الله منيرة قبيسي، وهيأ لجماعتها من يُجدد لها دينها ويضع عنها إصرها والأغلال التي كبلتها فكريا وواقعيا.
Sorry Comments are closed